جعفر عباس

خذوا العبرة والموعظة (1)


خذوا العبرة والموعظة (1)
كتبت أول مقال صحفي في حياتي وأنا طالب في السنة الأولى بالجامعة، ونشر المقال في الصفحة الأخيرة في جريدة مرموقة، وغبت عن المحاضرات الجامعية يومين متتاليين، لأستمتع بما حسبته «النجومية»، التي لم تضايقني بل استمتعت بها، وحسبت أن جميع أهل الخرطوم أحاطوا علما بتلك الواقعة الخطيرة فتسكعت في شوارع المدينة وأنا أوزع الابتسامات مجانا للغادي والرائح، بحسبان ان الكل صاروا يعرفونني.. وحزنت لتخلف السودانيين الذين لا يعرفون معنى ومغزى وقيمة الحصول على أوتغرافات (تواقيع) المشاهير، واشتريت من تلك الصحيفة نحو خمسين نسخة، استعرت قيمتها من زميل ثري، وزعتها على الأهل والمعارف واحتفظت بنسخة عرضتها على أمي لاحقا، وكانت تلك أول مرة أسمع فيها من أمي رحمها الله، أنها نادمة على عدم تعلم القراءة والكتابة،… بالنسبة إليها كان نشر اسمي في الجريدة مؤشرا إلى مستقبل باهر ينتظرني، بل نصحتني بعدم قبول أي منصب أقل من «مدير» بعد التخرج،.. حسبت ان طريق المجد الصحفي بات ممهدا أمامي فواصلت الكتابة للصحف،.. كتبت نحو عشرين مقالا في شهر واحد، وكلفني ذلك مبلغا طائلا لأنني كنت أرسل كل مقال بالبريد، وعلى كل منها طابع بريد فئة قرش كامل، ولكن ما من صحيفة نشرت لي سطرا، فقلت «إنها الغيرة من كاتب صاعد سيمسح بديناصورات الصحافة الأرض»،.. وطوال سنتين فشلت في إقناع أي صحيفة بنشر كلمة واحدة لي، وفي السنة النهائية في الجامعة حدثت مصادمات طلابية تبعتها ملاسنات في الصحف، ونشرت لي صحيفة مقالين في أسبوع واحد حول تلك الأحداث، فعملت على تأجيج الفتنة في الجامعة حتى يتسنى لي الكتابة عنها ويواصل اسمي ظهوره في الجرائد،.. وسعيت بعد التخرج إلى العمل في صحيفة ولكنني اكتشفت ان معظم الصحفيين اللامعين من مستحقي الزكاة، فآثرت الابتعاد عن ذلك الميدان، وخاصة أن المشير جعفر نميري (قام بترقية نفسه من عقيد إلى فريق ثم مشير) كان قد وصل إلى السلطة وجعل الصحافة «سلطة» بفتح السين واللام.
ثم شاء القدر أن أمتهن الصحافة والإعلام طوال العقود الثلاثة المنصرمة،.. ومن المعروف في الأوساط السياسية الدولية أنني صاحب «خبطات صحفية» من النوع الذي يسبب الجلطة لرؤساء تحرير الصحف، وقد كتبت مرارا عن تجربتي في محاورة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق (على عهد جيمي كارتر) ادموند ماسكي، ولا بأس في ان أتحدث عنها هنا لأن فيها عظات وعبرا لكل صحفي ناشئ،.. كان ذلك وأنا أعمل في صحيفة إمارات نيوز الانجليزية في أبوظبي، وتم تكليفي بمحاورة ماسكي على ان ينشر الحوار في جريدة الاتحاد العربية شقيقة صحيفتي الانجليزية، وعكفت بضعة أيام أستعد للحوار، درست السياسة الأمريكية في المنطقة وقلبت قاموسي أوكسفورد وويبستر للحصول على كلمات من الوزن الثقيل، وجاء اليوم الموعود واستعرت جاكيت بيج من أحد الزملاء، واشتريت الكرافتة على نفقتي الخاصة، ولمعت حذائي جيدا، ودخلت على الوزير ماسكي في جناحه في الفندق فأجلسني مرافقه في صالة واسعة، وبعد قليل جاءني الرجل وفي قدميه جوربان، ولكنه لم يكن يرتدي حذاء، فاعتبرت ذلك استخفافا بي، وقررت أن أثبت له أنه يواجه خصما شرسا، «فاهما» من النوع الذي يتكحل بالشطة ويستحم بماء الطرشي، واستدرجته بسؤال سهل عن طبيعة زيارته، فقال الكلام المعتاد عن العلاقات ذات الاهتمام المشترك، والبطيخ .. ثم قررت الطعن في اللحم الحي،.. وبدأت في استعراض عضلاتي وثقافتي الغزيرة مستخدما كلمات طوربيدية من شاكلة كونفرنتيشن، وكوربوريشن وكومبريشن.. أحسست بنشوة وأنا أتكلم الانجليزية بطلاقة أمام وزير خارجية أمريكا، وكنت أنظر إلى السقف كما يفعل المفكرون العباقرة أثناء الحديث، وكان حديثي أقرب إلى المحاضرة منه إلى السؤال، وبعد أن نضب معيني من المفردات الدسمة والمعلومات التفت إليه طالبا «الإجابة»،.. وغدا نرى عاقبة «التشطر»!!

[EMAIL]jafabbas19@gmail.com [/EMAIL]