انتفاضة أبريل ـ أسرار وخفايا
لم يكن هذا الإعصار الفجائي وليد أيام بل كان لسنوات سابقة لحدوثه تمخَّضت عنها بدايات نهاية حكومة الرئيس الأسبق جعفر النميري، ومنها بالتأكيد الضائقة المعيشية وسياسات النظام التي قامت على الأحادية وقهر الشعب وإذلاله زائداً تقاطعات لم تكن في الحسبان على الصعيدين الداخلي والخارجي.
قد يقول قائل بأن مجمل ما حدث كان ركاماً فوق ركامٍ من أحداث سبقت تلك الثورة الشعبية وهو رأي قد يتفق فيه البعض ويختلف الآخرون. لكن الملمح الأهم في كل هذا كان الثلاث سنوات الأخيرة لحكم النظام القائم آنذاك والتي لم تكن أيامها إلا سوءاً سياسياً جعل الثورة آنية غير بعيدة الحدوث. الأوضاع السياسية والاقتصادية قبل الانتفاضة ضاق الناس ذرعاً بالضائقة المعيشية الطاحنة التي ضربت البلاد زائداً عدم وجود ما يمكنه أن يجعلها تتراجع عن المعدل الذي كانت عليه.
فبنظرة مبسطة للواقع المعيشي آنذاك نجد أن مرتب العامل الذي يعول أسرة مكونة من أربعة أشخاص و(الزوج والزوجة واثنين من الأبناء) كان مائة وعشرة جنيهات فقط في حين أن كيلو اللحم البقري كان خمسة وثمانين قرشاً. أما كيس الخضار فكانت قيمته جنيهًا واحدًا. هذا في جانب إعاشة أسرة مثل هذه دون طوارئ العلاج والكهرباء والرغيف والزيت وبقية مستلزمات الإعاشة.
مما سبق يتضح جلياً خطر الأوضاع الاقتصادية بالبلاد والتي وصلت دركاً لما يمكن التنبؤ به مستقبلاً، إزاء كل ذلك حدثت الطامة العظمى والتي جعلت الهلع يغزو النفوس مما جعل المحلل البريطاني (باترك سيل) صاحب التحليلات المنطقية لمجمل الأوضاع في المنطقة العربية يجزم بأن التغيير آتٍ في السودان في غضون ثلاثة أشهر وهو ما حدث فعلاً.
كانت تلك الطامة الكبرى تتمثل في ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني إذ بلغ سعر صرفه نصف ضعفه مباشرة في خطوة من بنك السودان ووزارة المالية لوقف التضخم وإيجاد منفذ للضائقة الاقتصادية.
فكانت الأسعار تبعاً لذلك تسير بمعدلات متوالية هندسية. فمباشرة أصبح مرتب الموظف والعامل بالدولة لا يكفي لأسبوع بعد أن كان نفس المرتب يفيض عن حاجته.
بدايات التحرك لإسقاط النظام استشعرت قطاعات كثيرة من العمال والمعنيين خطورة الأوضاع التي يعاني منها الشعب، فكان يوم السادس والعشرين من مارس «1985م» هو بداية التحرك الفعلي لإسقاط نظام النميري.فعند الساعة الثانية عشرة منتصف ذلك اليوم سيَّر اتحاد طلاب جامعة الخرطوم موكباً طاف منطقة وسط الخرطوم لتنضم للموكب جماعات من عامة الشعب.
حيث أتت الساعة الثانية ظهراً كانت مدن العاصمة الثلاث قد خرجت هي الأخرى في مواكب هادرة وهي تهتف بشعارات ضد النظام القائم، وهو ما جعل جهاز أمن النظام يُسرع الخُطى في التصدي لهذه المظاهرات.
بكري عديل والجزولي دفع الله كان لا بد لجهاز أمن الدولة ووفق آليات عمله المتطورة من التحرك لقمع أي تحرك من شأنه أن يجعل نطاق المظاهرات منتشراً بالقدر الذي يهدد النظام في استمراريته.على الفور كانت غرفة عمليات جهاز أمن الدولة قد حددت أسماء عدد من قيادات العمل النقابي المناوئ للنظام بوصفهم من ضمن شخصيات كانت تعمل في الخفاء السياسي ضد النظام، فكان يوم (28 مارس 1985م) هو اليوم الذي بدأت فيه حملة الاعتقالات الثانية، فالحملة الأولى كانت بالأحياء السكنية وهي التي استهدفت مجموعات صغيرة من معارضي النظام من الذين اشتركوا في تلك التظاهرات.
تم اعتقال كل من الدكتور الجزولي دفع الله والأستاذ بكري عديل فكانا من ضمن الذين تم اعتقالهم، فضمن المجموعة الثانية للمعتقلين ليبقيا ضمن معتقلين آخرين بسجن دبك. تسارعت الأحداث عاصفةً لتصل مرحلة التظاهرات غير المخطط لها. وهو ما أربك السلطات الأمنية التي كانت تعتزم الانتشار في مناطق محددة دون غيرها. فكانت تظاهرات ينظمها المارة بالشوارع دون تخطيط من أي جهة سياسية. وهو الشيء الذي جعلها تبدو وكأنها واحدة من عجائب تلك الأيام.
اليوم المفصلي للأحداث في يوم الأربعاء الثالث من أبريل وعند الساعة التاسعة وسبع وثلاثين دقيقة تدفقت جموع المواطنين الذين صبروا على ضائقة معيشية لم تحدث في تاريخ السودان لسنوات ثلاث نحو شارع القصر. حتى وصل عدد المواطنين وفق تقديرات مسؤول أحد عناصر الأمن بإحدى السفارات الأجنبية بالخرطوم لنحو أربعمائة ألف مواطن يومها.تدفق هؤلاء المواطنون نحو شارع القصر فكانت جموعهم تبدأ من محطة السكة الحديد جنوباً حتى ساحة الشهداء ومن جامعة الخرطوم كذلك من الناحية الشرقية على طول شارع الجامعة. شخصيات في واجهة الأحداث السياسية من جانب الحكومة برز من جانب الحكومة شخصان كانا على قدر كبير من الظهور في تلك الأيام. وهما الدكتور محمد عثمان أبو ساق القطب الحكومي في حزب السلطة المايوية (الاتحاد الاشتراكي) وذلك عبر عدد من أحاديثه الدالة على تماسك الدولة ودعوته للاطمئنان وعدم الخروج للشارع. فكان واحداً من نجوم الحكومة في تلك الأيام وخاصةً حين خاطب مسيرة حكومية موالية للسلطة المايوية متوعداً المتظاهرين بضربهم كما تضرب العقارب والفئران حتى تعود إلى أجحارها.
أما الشخص الثاني فقد كان القطب المايوي وأحد صناع تلك الحقبة الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم الذي ما إن وجد ما يكروفوناً في تلك الأيام حتى وقف أمامه وهو يقرأ على المواطنين خطباً حفظها الناس لتكرارها وعدم صلاحيتها لتلك الأوضاع التي كان يعيشها الناس والسودان. فقد كانت على شاكلة.
(إن الثورة ماضية في طريقها)
نجوم المعارضة في إشعال الانتفاضة
برز في تلك الأيام نجم الدكتور الجزولي دفع الله كأحد النقابيين الذين تحركوا بكل فاعلية لإسقاط النظام وبجانبه الأستاذ ميرغني النصري المحامي المعروف ونقيب المحامين.
الجفاف والتصحر مرت على البلاد في بداية الثمانينيات موجة جفاف عاتية أهلكت الأنعام وجعلت المراعي الخصيبة أرضاً جرداء. وهو ما جعل أعداداً كبيرة من المتضررين بإقليمي كردفان ودارفور تتجه نحو مناطق المياه والغذاء.
فظل مواطنو تلك المناطق في ضنك معيشي بائن وحياة تفتقر لأبسط مقومات الكرامة، فكانت السلطة السياسية عاجزة عن تقديم ولو جزءاً يسيراً من المساعدة.
فانشغلت السلطة السياسية بأمور أخرى لا تدخل في نطاق حل الكارثة الإنسانية.
فما إن حل شهر نوفمبر من العام «1983م» حتى كانت فصول الاتفاق النهائي ما بين النميري وإسرائيل قد اكتملت لترحيل اليهود الفلاشا عبر السودان قادمين من إثيوبيا فكانت (عملية سليمان) وهو الاسم الحركي لها واحدة من ضمن أبشع ما قامت به السلطة المايوية ممثلة في الرئيس ضد الشعب السوداني وسيادته.
فكان الإجماع على الانحياز للشعب وإعلان نجاح الثورة الشعبية. رغماً عن وضوح القضية وحاجتها لخمس دقائق فقط للحسم وإعلان رأي موحد حولها إلا أنها استغرقت سبع ساعات كاملة للحسم. فكانت الساعة الثالثة والنصف من صباح يوم السبت السابع من أبريل هي لحظة إعلان القادة العسكريين للانحياز لجانب الشعب. عمر محمد الطيب والسعي نحو بقاء النظام في الوقت الذي كانت فيه قيادة الجيش تسعى نحو الخروج برأي موحد حول الانتفاضة الشعبية كان اللواء عمر محمد الطيب مدير جهاز أمن الدولة أكثر رجال الرئيس نميري تشبثاً ببقاء النظام. فإن كان يعلم حقيقة اجتماع قادة القوات المسلحة بالقيادة العامة للتشاور في أمر الثورة فهو رجل من نوعية الرجال الذين يتشبثون بالأمل حتى وإن كان مستحيلاً. وإن لم يكن يعلم به فهو محقٌ في تقديراته فقوة جهاز أمن الدولة وقتها كانت كفيلة بالتحرك للصدام مع المتظاهرين. فحينها كانت الدماء ستسيل أنهاراً وتصبح الانتفاضة لها مسمى آخر وهو مجاذر أبريل «1985م». النصر للثورة الشعبية عند الساعة التاسعة صباح السبت السادس من أبريل انتظر الشعب السوداني بيان السيد وزير الدفاع والقائد العام للجيش وهو يعلن إنحياز الجيش للشعب السوداني ونهاية عهد الرئيس جعفر النميري المسمى بفترة مايو.
صحيفة الإنتباهة
صلاح الدين عبد الحفيظ مالك