الطاهر ساتي

شاب يصنع حياة الآخرين .. !!.

شاب يصنع حياة الآخرين .. !!.
** عادل سعيد، شاب سوداني، ولاتختلف طفولته وصباه عن طفولة وصبا السواد الأعظم من شباب السودان كثيرا.. انتقل والده إلى الرفيق الأعلى، وتركه يكافح في الحياة بحثا عن العيش الشريف ثم تأسيس أسرة تعيش بستر الحال..وكان الوالد عاملا بسيطا بفندق السودان، براتب بالكاد يفي حاجة الأسرة لنصف الشهر، ولذلك لم يرث منه عادل غير الأخلاق الفاضلة و( شنطة صغيرة)، ستعرف محتواها وأثرها في حياة الآخرين لاحقا يا صديقي القارئ..تخرج عادل في قسم كهرباء السيارات بالمعهد الألماني بحي العمارات، ثم سلك درب العمل متأبطا شنطة صغيرة هي المسماة في سوق العمل بالمناطق الصناعية ب( عدة الشغل )..!!

** يخرج فجرا بشنطته تلك، ليتخذ أرصفة الطرق و ظلال جدران المحلات التجارية والورش بالمنطقة الصناعية، أمكنة لعنوانه..ثم ينتظر الرزق ..أحيانا يجد زبونا بحاجة إلى جهده وحرفته، فيعود آخر النهار الي أسرته ببعض ما يسد الرمق من الكسب الحلال..وأحيانا لا يجد، فيعود صابرا محتسبا وأكثر إيمانا بأن الأرزاق بيد الخالق ولكل مجتهد نصيب..نعم ظل يجتهد يوميا بلا يأس أو حزن، إلي أن إكتسب سمعة طيبة في المنطقة الصناعية، وإتسعت دائرة معارفه وزبائنه..وغادر الأرصفة وظلال الجدران وأشجار المنطقة، ملتحقا بإحدى الورش نظير أجر معلوم ومتفق عليه مع صاحب الورشة..ثم أصبح عادل مالكا لورشة صغيرة، بفضل الله ثم مهنيته العالية وكريم خصاله التي أكسبته ثقة الزبائن، وعرف عندهم ب (عادل كهرباء )..!!

** وما أن أصبح مالكا لتلك الورشة الصغيرة، شرع عادل يفكر في حياة الآخرين الذين حالت الظروف بينهم وبين التعليم، أي شرع يفكر في حال الفاقد التعليمي..في حال المشردين..في حال اليتامى وغيره من الذين تكتظ بهم الطرقات والأسواق..حياة هؤلاء، بكل مافيها من رهق وضياع ولامبالاة، أضحت تؤرق خواطر عادل..ثم شرع يفكر في عمل ( شئ ما)، يساهم به تحسين حياتهم وينتشلهم من بحر الضياع، بحيث يكونوا إضافة للمجتمع، بدلا من أن يكونوا (عالة عليه )..إستأجر قطعة أرض مساحتها الف متر مربع بحي الإمتداد، وباع منزله وقطعة أرض إشتراها من عائد ورشته ثم ورشته، ليؤسس على قطعة الأرض تلك معهدا للتعليم المهني لمن لامهنة لهم..رجال المال والأعمال يهربون من العمل في مجال التعليم المهني، فالتكاليف عالية وغير مربحة..ولكن عادل – بلا أي رأس مال يترقب ربحا – قرر فتح معهد مهني لمن لامهنة لهم، ولمن لا مال لهم أيضا..ومنذ ثلاث سنوات وإلى يومنا هذا، الله يعلم – ثم عادل وفريق عمله فقط – بأعداد الذي إنتشلهم هذا المعهد من الطرقات والمجاري ودور اليتامى وقاع المخدرات، بحيث صاروا أصحاب مهن تخدم الناس والحياة ..!!

** الخميس الفائت، بصدفة هي خير من الف موعد، تجولت في أقسام المعهد، قسما تلو قسم..الكهرباء العامة، كهرباء السيارات، الميكانيكا، تبريد وتكييف.. ولوحة شرف تزين جدار المعهد بأعداد الدارسين في العام الفائت فقط – (824 دارسا – في مختلف الأقسام، بعضهم جامعيين والبعض الأخر إما ثانوي أو لم يكمل حتى مرحلة الأساس..صديق، أحد الدارسين، يختصر لي تجربته ( كنت طالبا بجامعة السودان، ولظرف ما لم إكمل الدراسة، وكنت على وشك الضياع ..لكن عادل جابني هنا وعلمني وبقيت ميكنيكي، وهسة عادي ممكن ادخل السوق).. نعم، عالم المخدرات كاد أن يجرف صديق، ولكن بفضل الله ثم بجهد عادل عاد صديق إلى الحياة نافعا للمجتمع ..عجزت عن الخروج من المعهد بأعداد الذين أنقذهم عادل من قاع الضياع وأعادهم إلى حياة الناس بكامل التأهيل والتدريب والأمل في الحياة..نعم عجزت عن معرفة كم متشرد، كم يتيم، كم مدمن، وجد ( حياة جديدة ) هنا، وصار جزء من المجتمع ..؟؟

** عادل يخبئ الأرقام بصدق غريب، ويضن بها على السائل قائلا : ( معليش يا أستاذ، اعفيني من السؤال ده.. انت ذاتك الجابك شنو الليلة؟..نسال الله العفو والعافية )، أوهكذا أحرجني أكثر من مرة أمام صديقي الذي زرته يوم الخميس، فأرشدني إلى معهده قائلا : ( عليك الله يا ساتي قبل ما تمشي تعال شوف الناس اللي بيحبو البلد دي بالجد بيعلموا في شنو)، ثم دخل بي الي المعهد.. نعم شعرت بالحرج من صمت عادل، وهكذا حال المرء حين يجد نفسه أمام شاب يحب الناس والبلد بخفاء يخشى أن تعرف يسراه ما تفعله يمناه في المجتمع..وفعلت كما فعل صديقي..أي خرجت من المعهد، وإتصلت بالأستاذ كمال عبد اللطيف وزير الموارد البشرية، والأستاذ حسن فضل المولى، مدير فضائية النيل الأزرق، وأسمعتهما ذاك النداء (عليكم الله تعال شوفو الناس اللي بيحبو البلد دي بالجد بيعلموا في شنو)..ثم عدت إلى المعهد وودعت عادل وكوادره وطلابه وصديقي، وغادرت المكان.. غادرته فخورا بوطن ينتمي إليه أمثال هذا الشاب الذي يقطن في ( بيت إيجار ) بعد أن وهب ثمن بيته وارضه وعائد ورشته لمن لامهنة لهم، لكي لا يكونوا ( وبالا على المجتمع )..!!

إليكم – السوداني
[email]tahersati@hotmail.com[/email]