رأي ومقالات

لأجل فهم عميق لشخصية « الزول »

[JUSTIFY]عندما يتزوج أوروبي أبيض من إفريقية سوداء؛ فإن ذريتهما ستعاني الإقصاء والتهميش من كلا الإثنيتين (الأوروبية والإفريقية)، فلا هم أفارقة سود ولا هم أوروبيون بيض، وهذا التهميش ليس بسبب الشكل الخارجي فحسب وإنما بسبب الثقافة المختلطة على افتراض أنهم نهلوا من الثقافتين بنسبة متساوية، فنتج عن ذلك هجين ثقافي (غريب).. لجأت إلى هذا الاستطراد والتمثيل لأشرح مدى التعقيد الذي ينتاب التكوين الثقافي للزول السوداني الممتزج بالثقافتين العربية والإفريقية؛ فالتمثيل له طاقة بيانية مستمدّة من خاصية التصوير، والتصوير يسهل استجلاب المفاهيم والحقائق وإعارة ملامحها التشخيصية.. بعض الأشقاء العرب لا يبذلون قليل عناء لفهم الشخصية السودانية، وكذا الحال بالنسبة للأشقاء الأفارقة وما بين حيرة أو سوء فهم العرب والأفارقة للشخصية السودانية تقف مضطرة في منطقة وسطى ما بين الجنة والنار.

كثير من الإخوة العرب يحاول تفسير مواقف السودان السياسية تجاه الدول الأخرى، وهي مواقف في نظرهم تُثير الدهشة، لأنها تتعارض مع (قوانين) السياسة والمصالح الدولية.. الوفاء السوداني ونصرة الضعيف عندما يكون مُكلّفاً ينظر إليه أولئك باعتباره نوعاً من (العَبَط).. الضعف قد لا يكون قلة حيلة أول نقصا في القوة ولكن قد يتمثّل في الإصرار على موقف بعينه تترتب عليه عزلة يفرضها الآخرون.. في السياسة الدولية والإقليمية كثير من النماذج والأمثلة جعلت السودان يتحمل كُلفة سياسية باهظة.. لن نذهب بعيداً في التاريخ، ففي عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري؛ حينما ذهب الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بعيداً وفاجأ العالم وزار (إسرائيل) وخاطب الكنيست في جلسته الخاصة رقم ‎43 بتاريخ ‎نوفمبر من العام 1977م وهي الزيارة التي أدت إلى توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر و(إسرائيل).. حينها هبت عاصفة سياسية عاتية على مصر من محيطها العربي ونُقلت منها الجامعة العربية إلى تونس ووضعت في عزلة تامة.. بالمقاييس والمعايير السياسية في ذلك الوقت فإن موقف الدول العربية كان صحيحاً وأن السادات والنظام المصري كان يستحق أكثر من ذلك.. لكن (الكاريزما) السودانية أبت إلا أن تقف بجانب مصر (الضعيفة) والمعزولة ولم يجار الرئيس نميري الدول العربية رغم موقفه المتماهي مع مواقفها من اتجاه مصر المنفرد نحو (إسرائيل).. كلّف ذلك الموقف السودان الكثير، لكنه كان موقفاً نابعاً من (وفاء) خاص على الطريقة السودانية.. تكرر الأمر في العام 1990م عندما احتل العراق الكويت وكان بالطبع تصرفاً غير مبرر وخرقا لكل الأعراف والمواثيق الدولية وقوبل ذلك بهجمة دولية وعربية فيها استنكار كبير لتصرف العراق.. رغم أن الكويت كانت ضعيفة ومعتدى عليها إلا أن الوقفة العالمية بجانبها جعلت من العراق في نظر السودان هو الأضعف في مواجهة العالم كله.. مرة أخرى وقف السودان بجانب العراق، وتحمل كلفة سياسية كبيرة مازالت آثارها باقية.. (كاريزما) الشخصية السودانية هي التي تغلبت على الحسابات السياسية وربما المنطق في كلا الحادثتين رغم اختلاف النظام الحاكم؛ ففي المرة الأولى كان نظام (مايو) برئاسة نميري وفي المرة الثانية كان نظام (الإنقاذ) برئاسة عمر البشير.

للسودان دور مهم للتواصل والحوار والتعاون العربي الإفريقي، لكن هذا الدور غير مسموح به البتة لأنه يضرب الأمن الإسرائيلي في مقتل ويحول دون استمرار انتهازية الرجل الأوروبي واستنزافه لخيرات القارة.. إن الملابسات التي صاحبت انفصال جنوب السودان ليست إلا نموذجا مصغرا لما يحيكه الغرب لإفشال أي تقارب إفريقي- عربي، لقد قصدت الإدارة البريطانية الاستعمارية في السودان إلى فصل أراضي الجنوب فعليا توطئة لضمها إلى أراضي شرق إفريقيا وعزلها عن أي تأثير عربي وإسلامي، وكان افتراض السياسة الاستعمارية المهيمنة في الجنوب وجود فراغ ثقافي، وإذا كان لابد من ملء هذا الفراغ فليكن بالثقافة الغربية بدلا من الثقافة العربية.. تاريخيا كان التوسع في إفريقيا والسيطرة على مناطق الموارد الإستراتيجية أحد الأهداف الاستعمارية للإمبراطوريات البريطانية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية، وكانت تتصارع بعنف وتتسابق بنشاط لاقتسام مناطق النفوذ وتوزيع الإرث، خاصة ما كان يطلق عليه وقتها «أرض بلا صاحب»، وما كان أكثر تلك الأراضي التي وضعها الاستعمار الأوروبي تحت هذا الشعار، خاصة في إفريقيا.

لماذا لا تتوجه الأنظار العربية إلى إفريقيا عبر البوابة السودانية؟، فهذه الصين العملاق الذي يثير الفزع الأمريكي والأوروبي تحدد أسس نوع جديد لشراكة إستراتيجية مع إفريقيا، فمنذ العام 2006 قام رئيس وزراء الصين الأسبق لي جاو سيانغ بجولة إفريقية وصدور وثيقة صينية بعنوان (سياسة الصين حيال إفريقيا)، تقول إن بكين تعمل على إقامة وتطوير نوع جديد من الشراكة مع إفريقيا، فليطلب العرب الحكمة من الصين، والأقربون أولى بالمعروف.

إن الدلائل تُشير إلى أن ليل إفريقيا يوشك أن يتولى وفجر مستقبلها يكافح الظلام في قوة، فهل سيخوض العرب الإعصار ويرسون في آخر الأمر على الشاطئ السعيد؟!

الشرق
ياسر محجوب الحسين[/JUSTIFY]