هنادي محمد عبد المجيد

هل مناسك الحج وثنية ؟‏

هل مناسك الحج وثنية ؟‏
قال صاحبي وهو يفرك يديه ارتياحا ، ويبتسم ابتسامة خبيثة تبدي نواجزه وقد لمعت عيناه بذلك البريق ، الذي يبدو في وجه الملاكم حينما يتأهب لتوجيه ضربة قاضية ،، ألا تلاحظ معي أن مناسك الحج عندكم وثنية صريحة ؟ ذلك البناء الحجري الذي تسمونه الكعبة وتتمسحون به وتطوفون حوله ،، ورجم الشيطان والهرولة بين الصفا والمروة وتقبيل الحجر الأسود ،، وحكاية السبع طوفات والسبع رجمات والسبع هرولات ، وهي بقايا من خرافة الأرقام الطلسمية في الشعوذات القديمة ،، وثوب الإحرام الذي تلبسونه على اللحم ،، لا تؤاخذني إن كنت أجرحك بهذه الصراحة ولكن ، لا حياء في العلم ! ،، وراح ينفث دخان سيجارته ببطء ويراقبني من وراء نظارته ،، قلت في هدوء: ألا تلاحظ معي أنت أيضا أن في قوانين المادة التي درستها ،، أن أصغر الأشياء يطوف حول الأكبر ؟ الإلكترون في الذرة يدور حول النواة ،، والقمر يدور حول الأرض ،، والأرض حول الشمس ،، والشمس حول المجرة ،، والمجرة حول مجرة أكبر ،، إلى أن نصل إلى الأكبر مطلقا وهو الله ،، ألا نقول الله أكبر ، أي أكبر من كل شيء ؟،، وأنت الآن تطوف حوله ضمن مجموعتك الشمسية رغم أنفك ، ولا تملك إلا أن تطوف ،فلا شيء ثابت في الكون إلا الله ، هو الصمد الصامد الساكن والكل في حركة حوله ، وهذا هو قانون الأصغر والأكبر الذي تعلمته في الفيزياء ،، أما نحن فنطوف بإختيارنا حول بيت الله ،، وهو أول بيت اتخذه الإنسان لعبادة الله ،، فأصبح من ذلك التاريخ السحيق رمزا وبيتا لله ،، ألا تطوفون أنتم حول رجل محنط في الكرملين ؟ تعظمونه وتقولون أنه أفاد البشرية ! ولو عرفتم لشكسبير قبرا لتسابقتم إلى زيارته بأكثر مما نتسابق إلى زيارة محمد عليه الصلاة والسلام !،، ألا تضعون باقة ورد على نصب حجري وتقولون أنه يرمز للجندي المجهول ! فلماذا تلوموننا لأننا نلقي حجرا على نصب رمزي نقول أنه يرمز إلى الشيطان ؟ ألا تعيش في هرولة من ميلادك إلى موتك ،، ثم بعد موتك يبدأ إبنك الهرولة من جديد ،، وهي نفس الرحلة الرمزية من الصفا :الصفاء أو الخواء أو الفراغ رمز للعدم إلى المروة : وهي النبع الذي يرمز إلى الحياة والوجود من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم؟ أليست هذه هي الحركة البندولية لكل المخلوقات ؟ ألا ترى في مناسك الحج تلخيصا رمزيا عميقا لكل هذه الأسرار ؟ ورقم 7الذي تسخر منه ،، دعني أسألك : ما السر في أن درجات السلم الموسيقي 7 ؟ صول لا سي دو ري مي فا؟ ثم بعد المقام السابع يأتي جواب الصول من جديد ، فلا نجد 8وإنما نعود إلى سبع درجات أخرى وهلم جرا ،، وكذلك درجات الطيف الضوئي 7،، وكذلك تدور الإلكترونات حول نواة الذرة في نطاقات 7،، والجنين لا يكتمل إلا في الشهر 7 ،، وإذا ولد قبل ذلك يموت ! وأيام الأسبوع عندنا وعند جميع أفراد الجنس البشري 7وضعوها كذلك دون أن يجلسوا ويتفقوا ،، ألا يدلك ذلك على شيء ؟ أم أن كل هذه العلوم هي الأخرى شعوذات طلسمية ؟ ،، ألا تُقبِّل خطابا من حبيبتك ؟ هل أنت وثني ؟ فلماذا تلومنا إذا قبَّلنا الحجر الأسود الذي حمل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في ثوبه وقبَّله ؟ لا وثنية في ذلك بالمرة ،، لأننا لا نتجه بمناسك العبادة نحو الحجارة ذاتها وإنما نحو المعاني العميقة والرموز والذكريات ،،،،(مناسك الحج) هي عدة مناسبات لتحريك الفكر وبعث المشاعر وإثارة التقوى في القلب ، أما ثوب الإحرام الذي نلبسه على اللحم ونشترط ألا يكون مخيطا فهو رمز للخروج من زينة الدنيا والتجرد التام أمام حضرة الخالق ،، تماما كما نأتي إلى الدنيا في اللفة ونخرج من الدنيا في لفة وندخل القبر في لفة ،، ألا تشترطون أنتم لبس البدل الرسمية لمقابلة الملك ؟ ونحن نقول أنه لا شيء يليق بجلال الله إلا التجرد وخلع جميع الزينة لأنه أعظم من جميع الملوك ،، ولأنه لا يصلح في الوقفة أمامه إلا التواضع التام والتجرد ،، ولأن هذا الثوب البسيط الذي يلبسه الغني والفقير والمهراجا والمليونير أمام الله فيه معنى آخر للأخوة رغم تفاوت المراتب والثروات ،، والحج عندنا اجتماع عظيم ومؤتمر سنوي ،، ومثله صلاة الجمعة وهي المؤتمر الصغير الذي نلتقي فيه كل أسبوع ،، هي كلها معان جميلة لمن يفكر ويتأمل ، وهي أبعد ما تكون عن الوثنية ،، ولو وقفت معي في عرفة بين عدة ملايين يقولون الله أكبر ويتلون القرآن بأكثر من عشرين لغة ويهتفون : لبيك اللهم لبيك ،، ويذوبون شوقا وحبا لبكيت أنت أيضا دون أن تدري ،، وتذوب في الجمع الغفير من الخلق ،، وأحسست بذلك الفناء والخشوع أمام الله الإله العظيم مالك الملك الذي بيده مقاليد كل شيء .””
كانت هذه كلمات الراحل الخالدة ذكراه العطرة بيننا ، الدكتور المفكر المصري مصطفى محمود ،، طيب الله ثراه ، من كتاب (حوار مع صديقي الملحد) ،،وهي قصة واقعية حدثت معه بالفعل ، وانبرى لها كأفضل ما ينبغي أن يكون المخلص لدينه ،، اللهم ارحمه واجعله من المقربين في الصديقين والشهداء والصالحين ، وأجزه عنا من الخير أكثر ما ترك لنا من علمه العميق الناجز،، وأخلف علينا من أمثاله ، اللهم آمين .

هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]