تحقيقات وتقارير

الخرطوم وباريس .. علاقات غامضة ومساومات مُكلفة

[ALIGN=JUSTIFY]عُقد في العاصمة الدوحة أمس، قمة هي الأولى من نوعها التي تجمع الرئيس عمر البشير بالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي برعاية ومشاركة أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وحسب ما تناقلته وسائل الاعلام فإن القمة تناولت في الأساس إطار الأزمة في إقليم دارفور، ولم تصدر عن القمة تسريبات تتحدث عن ما دار بين الرئيسين بشأن قضية إتهامات محكمة الجنايات الدولية للرئيس البشير، لكن مراقبين يعتقدون انه من غير الممكن ان يكون الرجلان قد أهملا هذه النقطة خلال محادثاتهما، رغم أن الرئيس الفرنسي صرح بأنه أبلغ البشير بضرورة اتخاذ مبادرات وانه (يجب تغيير الأمور)، ويبدو ان للعبارة الأخيرة صلة بطلب سابق للفرنسيين بألا (يبقى اناس متهمون بارتكاب ابادة كوزراء في الحكومة السودانية)، وتكشف عن مساومات جديدة في سياق معالجة قضية المحكمة الجنائية الدولية.
مع ذلك، فإن قمة الدوحة بين البشير وساركوزي، تكتسب أهمية خاصة لجهة تنامي الدور الذي باتت تلعبه فرنسا في قضية دارفور، فالرئيس ساركوزي هو أحد الرؤساء الثلاثة مع الامريكي بوش والبريطاني غوردون براون، الذين دفعوا بقوة وراء تصعيد قضية دارفور على المستوى العالمي، ودعموا بشدة إجراءات محكمة الجنايات الدولية، لكن فرنسا عادت بعد صدور مذكرة اتهام المدعي العام للمحكمة الدولية ضد الرئيس البشير، واعلنت عن إمكانية تعليق اجراءات المحكمة الجنائية في مقابل تغيير (جذري) في سياسة الخرطوم وتعاونها لحل النزاع بدارفور.
وجاء لقاء الرئيس البشير ودبي، على خلفية إجتماعات عقدت بين الجانبين مؤخرا، أبرزها اللقاء الذي جمع نائب الرئيس علي عثمان محمد طه بالرئيس الفرنسي إبان انعقاد اعمال الجمعية العامة للامم المتحدة بنيويورك، وصرح طه وقتها بأن الجانب الفرنسي تحدث عن إمكانية قبول تجميد النشاط السياسي لمسؤولين في الحكومة مقابل التراجع عن موقف فرنسا الداعم لتوقيف الرئيس البشير، ورجح البعض ان هذا الموقف تطابق مع الرد الفرنسي على مساعد رئيس الجمهورية الدكتور نافع علي نافع الذي زار باريس ايضا، حيث ناقش موضوعات مماثلة مع المسؤولين الفرنسيين.
ويرجع بعض المحللين تنامي الدور الفرنسي في قضية دارفور، إلى الاضرار التي تسبب فيها النزاع بالاقليم في بعده الاقليمي المرتبط بدولة تشاد، إذ تدخلت القوات الفرنسية لإنقاذ نظام الرئيس إدريس دبي من السقوط في ايدي المعارضين في حالتين.
وفي المرتين، واجهت الحكومة هنا، تهمة دعم المتمردين التشاديين، وتهمة محاولة إزاحة الرئيس دبي عن السلطة، بإعتبار ان الاخير يدعم الحركات المسلحة في دارفور خاصة حركة العدل والمساواة التي ينتمي غالبية عضويتها الى قبيلة الزغاوة التي ينتمي اليها دبي ايضا.
في المقابل، فقد تنبهت الحكومة بشكل متأخر للدور الفرنسي في قضية دارفور، ولم تتعامل مع القضية في هذا الجانب إلا بعد الدور الذي لعبته فرنسا في دعم إجراءات المحكمة الجنائية الدولية، ويرجع التعامل المتأخر للحكومة إزاء الموقف الفرنسي، لتاريخ غامض في العلاقات بين الخرطوم وباريس.
فقد ظلت العلاقات السودانية ـ الفرنسية، يشوبها الكثير من الغموض في عهد الانقاذ خاصة بعد ان سلمت الحكومة ـ خلال زعامة الدكتور حسن الترابي لحزب المؤتمر الوطني- (كارلوس) للفرنسيين، وحتى الآن يجادل المراقبون في غموض وسر تلك الصفقة، ودوافعها ونتائجها. وإستمرت الحكومة في عدم المساس بالمصالح الفرنسية في مناطق الجوار خاصة في تشاد وافريقيا الوسطى، بل ان الخرطوم ساندت الرئيس لوران كابيلا في الكونغو عندما اطيح بالجنرال موبوتو، ومع ذلك فإن العلاقات بين البلدين لم تشهد تطورا ملحوظا، الا في اطار إقتصادي محدود، ومواقف فرنسية غير متشددة ضد السودان داخل مجلس الامن، بيد أن المواقف الفرنسية إزاء السودان تغيرت بشكل كبير، عقب إنفجار الاوضاع في دارفور، وتأثر تشاد بشكل بالغ بما يجري في دارفور، وبالتالي تضرر المصالح الفرنسية في المنطقة.
ويصف أستاذ العلوم الياسية الدكتور الامين عبد الرازق، العلاقات بين البلدين بانها ظلت على الدوام ( علاقات سطحية)، فمنذ قيام الانقاذ حتى تسليم كارلوس، لا توجد علاقات اقتصادية كبيرة او ثقافية مؤثرة، كما إقتصرت علاقات البلدين على تبادل امني إستفادت من خلاله فرنسا بحصولها على معلومات لحماية مصالحها في الدول التي تهمها في المنطقة.
وحسب الدكتور عبد الرحمن خريس استاذ السياسة الخارجية بالمركز القومي للدراسات الدبلوماسية بوزارة الخارجية، فإن الدور الفرنسي بخصوص دارفور، بدأ فعالا بزيارة الطبيب وزير الخارجية الفرنسي كوشنير الى افريقيا خاصة تشاد والسودان ودارفور، وقبل ذلك عُقد في باريس مؤتمر دولي حول داررفور كأول ثمار الدبلوماسية الفرنسية الجديدة، ويعتقد الدكتور خريس ان كافة الجهود الفرنسية بشأن السودان، تتصل بهدف رئيسي هو الحيلولة دون انتشار ما يحدث في دارفور الى الدول الاخرى المجاورة للسودان، تفاديا لزعزعة الاستقرار في المنطقة وحماية المصالح الفرنسية في المنطقة.
ويشير الدكتور خريس من خلال رؤية تحليلة للعلاقات بين الخرطوم وفرنسا، الى ان جهود فرنسا لحل المشكلة، تمثل في طرحها للمبادرة القطرية في دمشق خلال الزيارة الرسمية التي قام بها ساركوزي الى العاصمة السورية، ومن بين بنود المبادرة القطرية جمع كل اطراف النزاع وضم الاطراف الإقليمية واولها تشاد.
ويؤكد هذا التحليل، ما صرح به ساركوزي عقب لقائه الرئيس البشير، حيث رأى أن التغييرات يجب ان تشمل (العلاقات بين السودان وبين تشاد).
لكن أستاذ العلوم السياسية الدكتور الامين عبد الرازق قال لـ (الصحافة) امس عبر الهاتف، إن فرنسا لا تستطيع تحسين العلاقات بين الخرطوم وانجمينا، إلا بدفع البلدين على التخلص من معارضيهم، معتبرا ان معالجة الازمة بين البلدين في حل ازمة دارفور وليس العكس.
ويبدو عبد الرازق غير متفائل بنتائج قمة البشير وساركوزي، لجهة معالجة ازمة المحكمة الجنائية الدولية، ويرى في الخصوص أن المساومة تنحصر في المسألة التشادية، ويقول إن الموقف الفرنسي في الخصوص، موقف مشترك مع بريطانيا وبتنسيق مع امريكا في مجلس الامن، في اشارة الى أن فرنسا لا تستطيع وحدها احداث إختراق منفرد في هذه القضية.
ومن المهم هنا الاشارة الى الموقف الامريكي الذي عبر عنه، ريتشارد وليامسون المبعوث الأمريكي الخاص للسودان في مؤتمر صحفي قبل اسبوع في الدوحة، (أن مجلس الأمن يستطيع أن يجمد قرار المحكمة الجنائية لاثني عشر شهرا، وأنه قد جرى الحديث عن هذا الأمر أكثر من مرة، لافتا إلى أنه وحسب فهمه أن في مجلس الأمن تسعة أصوات يجب أن تمنح بالكامل من أجل إقرار هذا الموقف، و يتوفر الآن سبعة أصوات فقط، وحتى الآن لا تتوفر الأصوات التسعة الكافية لتجميد قرار المحكمة الجنائية، وقال إن الولايات المتحدة معنية بتحسين الوضع الإنساني في المقام الأول وحتى الآن نحن لا نرى خطوات باتجاه هذا الموضوع، وأوضح ويليامسون أنه إذا لم يتم تحسين الوضع الإنساني وتم التصويت على تجميد قرار المحكمة الجنائية فإن الولايات المتحدة لن تصوت لصالح قرار تجميد المذكرة وإذا اقتضى الأمر فسوف تستخدم حق الفيتو).
على الرغم من ذلك، تبدو الحكومة متفائلة بنتائج لقاء البشير وساركوزي في الدوحة، حيث أوضح وزير التعاون الدولي التجاني فضيل أن الرئيس تقدم بالشكر لساركوزي لدعمه لمبادرة السلام في دارفور مؤكدا أن الحكومة السودانية في إطار مبادرة أهل السودان والتي هي إحدى الاسهامات لتهيئة الأجواء للتفاوض والتوصل للسلام في دار فور.
وأضاف الوزير أن الرئيس البشير أوضح للجانب الفرنسي أن دارفور جزء هام جدا من السودان وأن تحقيق السلام فيه يعنى الكثير بالنسبة للسودان والمنطقة كلها لذا فقضية دارفور تأتي في أعلى قائمة أولويات السودان.
ويبدو من تصريح الوزير ان الحكومة صاغت موقفها التفاوضي مع فرنسا، على اساس أن فرنسا يمكن ان تساعد في تهيئة الأجواء ودفع الأطراف للتفاوض خاصة وأن أحد قادة التمرد وهو عبدالواحد محمد نور مقيم بفرنسا، حيث قال الوزير في تصريحه إنه من الضروري دخول عبد الواحد في مفاوضات غير مشروطة للتوصل لحل للمشكلة التي لا حل لها إلا عبر التفاوض.
ويبدو هذا المطلب ضئيلا في مقابل المطالب الفرنسية للسودان، إذ تريد فرنسا (تغيير جذري) يشمل ما يتعلق بحقوق الانسان ووجود بعض الاشخاص في الحكومة.
لكن استاذ العلوم السياسية خريس ينصح بعد تراجع الحكومة عن موقفها الرافض للتعامل مع المحكمة الجنائية، ويرى في هذا الصدد، أن تردد الموقف الفرنسي بسبب رفض الحكومة تسليم اي مواطن سوداني للمحكمة، كما يدعو خريس الى تفعيل المؤسسات العدلية الوطنية واحقاق الحقوق لاهلها في وقتها، معتبرا أن من شأن ذلك أن يقطع دابر كل متربص بالبلاد.
مع ذلك، ينصح المراقبون بعدم الاطمئنان لما يبديه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، من مرونة، فالرجل الذي تخلص من زوجته، ودخل قصر الأليزيه بعشيقته الفارعة، يصعب الرهان على إمكانية إتخاذه موقف واضح بشأن قضايا السودان، خاصة مسألة المحكمة الجنائية الدولية.
خالد سعد: الصحافة [/ALIGN]