هنادي محمد عبد المجيد

النفس والروح‏

النفس والروح‏‏
في اللغة الدارجة نخلط دائما بين النفس والروح ،فنقول إن فلانا طلعت روحه ،ونقول إن فلانا روحه تشتهي كذا ، أو أن روحه تتعذب ،أو أن روحه توسوس له ،أو أن روحه زهقت ،أو أن روحه إطمأنت ،أو أن روحه تاقت واشتاقت أو ضجرت وملَّت ،، وكلها تعبيرات خاطئة ،وكلها أحوال تخص النفس وليس الروح ،، فالتي تخرج من بدن الميت عند الحشرجة والموت هي نفسه وليس روحه ،، يقول الملائكة في القرآن للمجرمين ساعة الموت:[ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ اليومَ تُجْزوْنَ عَذابَ الهُونِ] الأنعام ٩٣ والتي تذوق الموت هي النفس وليس الروح:[ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْت ]آل عمران ١٨٥ ،والنفس تذوق الموت ولكن لا تموت ،فتذوُّقها الموت هو رحلة خروجها من البدن ،والنفس موجودة قبل الميلاد ،وهي موجودة بطول الحياة ،وهي باقية بعد الموت ،وعن وجود الأنفس قبل ميلاد أصحابها يقول الله :أنه أخذ الذُّرية من ظهور الآباء قبل أن تولد وأشهدها على ربوبيته حتى لا يتعلل أحد بأنه كفر لأنه وجد أباه على الكفر:[ وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهورِهمِ ذرِّيتَهُم وأَشْهَدَهُمْ على أنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالوا بَلى شَهِدْنا] الأعراف ١٧٢فذلك مشهد أحضرت فيه الأنفس قبل أن تلابس أجسادها بالميلاد ،وليس لأحد عذر بأن يكفر بعلة كفر أبيه ،فقد كان لكل نفس مشهد مستقل طالعت فيه الربوبية ،وبهذا استقرت حقيقة الربوبية في فطرتنا جميعا ،، ثم إن الروح لا توسوس ،ولا تشتهي ولا تهوى ولا تضجر ولا تتعذب ولا تمل ولا تعاني هبوطا أو إنتكاسا إنما تلك كلها من أحوال النفس وليس الروح ،، يقول القرآن :[ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسَهُ قَتْلَ أَخيه فَقَتَلَه] المائدة ٣٠ [ ولقدْ خَلَقنْا الإنْسان ونَعْلَم ما تُوسْوِسُ بِه نَفسَه] ق ١٦ [ونَفْسٍ ومَا سَوَّاها فَألهَمَها فُجورَها وتَقْواها]الشمس ٨[ وأُحْضِرَتْ الأنْفُس الشُّح] النساء ١٢٨ [ ومَا أبُرِّئُ نَفْسي إِنَّ النَّفسَ لأماَّرةٌ بالسوءِ] يوسف ٥٣ [ ومَنْ يوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأؤلئِك هُمُ المُفلِحون] الحشر ٩ فالنفس هي المتهمة في القرآن بالشُّح والوسواس والفجور والطبيعة الأمارة ،وللنفس في القرآن ترق وعروج ،فهي يمكن أن تتزكى وتتطهر ،فتوصف بأنها لوامة وملهمة ومطمئنة وراضية ومرضية ،،[ يأيتَّهُا النَّفس المُطْمَئنَِّة ، إْرجِعيِ إلى ربِّكِ راضِيةً مَرْضِيَّة ،فاْدخُلي في عِبادي ، وادْخُلي جَنَّتي] الفجر ٣٠ أما الروح في القرآن فتذكر دائما بدرجة عالية من التقديس والتنزيه والتشريف ،ولا يذكر لها أحوال من عذاب أو هوى أو شهوة ،أو شوق أو تطهر أو تدنس أو رفعة أو هبوط أو ضجر أو ملل ولا يذكر أنها تخرج من الجسد أو أنها تذوق الموت ،ولا تنسب إلى الإنسان وإنما تأتي دائما منسوبة إلى الله ،، يقول الله عن مريم:[ فَأرْسلَنا إليْها روحَنا فتَمَثَّل لها بَشراً سَوِيَّا] مريم ١٧ ويقول عن آدم:[ فإذا سَوَّيْتهُ ونَفَخْتُ فيِه مِن روحي فَقَعوا لَهُ سَاجِدِين] الحجر ٢٩ ويقول:[ روحي] ولا يقول روح آدم فينسب ربنا الروح لنفسه دائما ،[وأيَّدَهُمْ بِروحٍ مِنْهُ] المجادلة ٢٢ أي من الله ،، ويقول عن القرآن ونزوله على النبي عليه الصلاة والسلام:[ وكذلك أَوْحَيْنَا إِليْكَ روحًا مِنْ أَمْرِنَا] الشورى ٥٢ ويقصد بالروح هنا الكلم الإلاهي القرآني [ يلُقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِه ليُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاق] غافر ١٥[ يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بالروحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِه] النحل ٢ والروح هنا الكلمة الإلاهية والأمر الإلاهي والروح دائما تنسب إلى الله ،وهي دائما في حركة من الله وإلى الله ولا تجري عليها الأحوال الإنسانية ولا الصفات البشرية ،ولا يمكن أن تكون محلا لشهوة ،أو هوى أو شوق أو عذاب ،، ولهذا توصف الروح بأوصاف عالية ،فيقول القرآن عن جبريل :إنه الروح القدس ،والروح الأمين ، ويقول عن عيسى عليه السلام إنه :[ رَسولُ اللَّه وكَلِمتَهُ ألْقاهَا إلى مَرْيَم وروح مِنه] النساء ١٧١ أي روح من الله ،، أمَّا النفس فدائما تنتسب إلى صاحبها :[ ومَا أصَابَكَ مِنْ سَيئَِّةٍ فَمِنْ نفْسِكَ] النساء ٧٩ [ مَنْ إهْتَدى فَإنَّما يهَتَدي لِنَفْسِه] الإسراء ١٥ [ وضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أنْفُسُهُم] التوبة ١١٨ [ ومَا أُبَرِّيُء َنفْسي] يوسف ٥٣ [ وكذلك سَوَّلَتْ لي نفْسي] طه ٩٦ [ ومَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ َفأؤلئِك هُمُ المُفْلِحون] الحشر ٩ [ومَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ] البقرة ١٣٠ وحينما تنسب النفس إلى الله فتلك هي الذات الإلاهية:[ ويُحَذِّرَكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ] آل عمران ٢٨ ذلك هو الله الذي ليس كمثله شيء وهو مما لا يستطيع الإنسان أن يتخيل له شبيها ولا يصح أن نقيس النفس الإلاهية على نفوسنا ،، فالنفس الإلاهية هي غيب الغيب ،،يقول عيسى بن مريم لربه يوم القيامة:[ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ولَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ] المائدة ١١٦ فالنفس الإلاهية لا تتشابه مع النفس الإنسانية إلا في اللفظ ولكنها شيء آخر البتة [ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] الشورى ١١ [ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْواً أَحَدْ] الإخلاص ٤والسؤال إذن : ما نصيب كل منا من الروح؟ وماذا نعني حينما نقول إن لنا روحا وجسدا؟ ثم ما علاقة نفس كل منا بروحه وجسده؟ أما نصيبنا من الروح فهو النفخة التي ذكرها القرآن في قصة خلق آدم ،،[ إنِّي خَالِقُ بَشَراً مِنْ طيِنٍ ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيه ِمنْ رُوحِي فَقَعوا لهُ سَاجدين] ص ٧٢ وما حدث من أمر التسوية والتصوير والنفخ في صورة آدم يعود فيتكرر في داخل الرحم في الحياة الجنينية لكل منا،، فيكون لكل منا تسوية وتصوير ،ثم نفخة ربانية حينما تتهيأ الأنسجة ويستعد المحل لتلقي هذه النفخة، وذلك يكون في الشهر الثالث من الحياة الجنينية ،وينتقل الخلق بهذه النفخة ،من حال إلى حال ُ،يقول ربنا عن المراحل:[ ثُمَّ خَلَقْناَ النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقنَْا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْناَ الِعظَامَ لَحْماً ثُمَّ أنَشْأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَباَركَ اللَّه أحْسَن الخَالِقيِنَ] المؤمنون ١٤،، فيقول عند النفخة:[ ثُمَّ أنْشَأناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَباَركَ اللَّهُ أحْسَنَ الخَالِقين] إشارة إلى نقلة هائلة نقل بها المضغة المكسوة بالعظام إلى مستوى لا يبلغه ولا يقدر عليه إلا أحسن الخالقين،، وذلك بالنفخة الربانية،،ونفهم من هذا أن السمع والبصر والفؤاد هي من ثمار هذه النفخة وكل منا يأخذ من هذه النفخة على قدر استعداده ،،وبفضل هذه النفخة يصبح للواحد منا خيال وضمير وقيم وعالم من المثل ،،والجسد والروح فينا أشبه بأرض الواقع وسماء المثال ،، وعلاقة كل منا بروحه وجسده هي أشبه بعلاقة ذرَّة الحديد بالمجال المغناطيسي ذي القطبين ،، والذي يحدث للنفس دائما هو حالة استقطاب ،، إما انجذاب وهبوط إلى الجسد إلى حمأة الواقع وطين الغرائز والشهوات ،وهذا هو ما يحدث للنفس الجسدانية الحيوانية ،حينما تشاكل الطين وتجانس التراب في كثافتها ،وإما انجذاب وصعود إلى الروح إلى سماوات المثال والقيم والأخلاق الربانية ،وهو ما يحدث للنفس حينما تشاكل الروح وتجانسها في( لطفها وشفافيتها )، والنفس طوال الحياة في حركة وتذبذب واستقطاب بين القطب الروحي وبين القطب الجسدي ،مرة تطغى عليها ناريتها وطينتها ومرة تغلبها شفافيتها وطهارتها،، ومن هنا نفهم أن حقيقة الإنسان هي نفسه والذي يولد ويبعث ويحاسب هو نفسه ،والذي يمتحن ويبتلى هو نفسه أما جسده وروحه فهما مجرد مجال تماما مثل الأرض والسماوات في كونهما مجال حركة بالنسبة للإنسان لإظهار مواهبه وملكاته ،، وبهذا تكون كلمة تحضير الأرواح كلمة خاطئة ، فالأرواح لا تستحضر ،ولا يمكن لأي روح أن تستحضر ،لأن الروح نور منسوب إلى الله وحده ،وهو ينفخ فينا هذا النور لنستنير به ،وهذا النور من الله وإلى الله يعود ولا يمكن حشره أو استحضاره أمَّا ما يُحشر ويُستحضر فهي الأنفس وليس الأرواح ،هذا إذا صح أن هؤلاء الناس يستحضرون أنفسا في جلساتهم ،وأغلب الظن أن ما يحضر يكون من الجن المصاحب لهذه الأنفس في حياتها ( القرناء) وكل منا له في حياته قرين من الجن يصاحبه ،وهو بحكم هذه الصحبة الطويلة يعرف أسراره ويستطيع أن يقلد صوته وإمضاءه ،وهذا الجن هو الذي يلابس الوسيط في غرفة التحضير المظلمة ،ويدهش الموجودين بما يحسبونه خوارق ،، أما الأرواح فلا يمكن إستحضارها ،، والنفس لا يمكن أن تتحول إلى روح ، وإنَّما هي في أحسن أحوالها ترتقي حتى تشاكل الروح وتجانسها بقدر ما تتخلق بالأخلاق الربانية ،وبقدر ما تقترب من المثال النوراني، ( الروح التي نفخها الله في الإنسان) كذلك يمكن لهذه النفس أن تتدنى وتهبط حتى تشاكل الشياطين ،وتجانس ابليس في ناريته، والنفس التي تتطهر وتتزكى حتى تشاكل وتجانس الروح في لطفها هي التي يقرِّبها الله من عرشه يوم القيامة ،وهي التي يقول عنها إنها ستكون[ في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِر] القمر ٥٥ لأنها بهذا التطهر والترقي تصبح نفسا ربانية مكانها إلى جوار الله ،، أما النفوس المظلمة التي تهبط بفجورها وغلظتها إلى الدرك الشيطاني فهم الذين يقول عنهم ربهم يوم القيامة :[ إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجوبُون] المطففين ١٥ ،، وهؤلاء سيكون مكانهم مع النفوس النارية السفلية في قاع الظلمة والجحيم ،، أما الروح فلا مكان لها في جنة أو في جحيم ،وإنما هي نور من نور الله تنسب إليه ،وهي منه ولا يجري عليها ابتلاء ولا محاسبة ولا معاقبة ولا مكافأة ،وإنما هي المثل الأعلى ،، في الآية[ ولِلِّهِ المَثَلُ الأعْلَى وَهُوَ العَزيزُ الحَكيِم ] النحل ٦٠ [ ولَهُ المَثَلُ الأَعْلى فِي السَّماواتِ والأرض وهُوَ العَزيز الحَكيِم] الروم٢٧ وذلك عالم المثال النوراني الذي يستمد قدسيته ونورانيته من كونه من الله ومن أمر الله ،[ ويَسْأَلونَكَ عَنْ الرَّوح قُلْ الرُّوح مِن أَمْرِ رَبِّي ومَا أُوتيِتُم مِنْ العِلْمِ إلَّا قَلِيلًا] الإسراء ٨٥ ،، والحمدلله .

هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]