هنادي محمد عبد المجيد

لماذا خلقنا الله ؟‏

لماذا خلقنا الله ؟‏
في كل لحظة منذ ميلاد الإنسان حتى موته ،منذ يقظته في أول ساعات الصباح حتى دخوله في الفراش لينام ،وهو يتعرض لإمتحان تلو إمتحان ،، كل لحظة تطرح على الإنسان موقفا وتتطلب منه اختيارا بين بديلات ،، وهو في كل اختيار يكشف عن نوعية نفسه وعن مرتبته ومنزلته دون أن يدري ،، شهوته تناديه ليُشبعها ، قد تكون شهوة إلى طعام ، أو شهوة إلى امرأة ،أو شهوة إلى سلطة ،أو شهوة إلى جاه ،، وإشباع أي شهوة يستدعي تأجيل الأخرى ،وتكشف النفس عن منزلتها بما تفضله ،وبما تعجل إليه من شهوات من أدنى السلم حيث الإنسان هو الحيوان الذي لا يشغله سوى شهوة بطنه أو عضوه التناسلي ، إلى الطاغية الجبار الذي لا شاغل له سوى شهوة التسلط على الآخرين وسحقهم واستغلالهم ،، يكشف لك اختيارك عن نوعك ومنزلتك ورتبتك ،، ويقول لك سلوكك ،من أنت بين هؤلاء الشهوانيين ،وأي نوع من الحيوانات أنت ،فإذا رفضت هذه الشهوات جميعا واستجبت لنداء المنطق والإعتدال ،فأنت من أهل النظر والعقل وأنت إنسان ولست حيوانا ! ولكن الإنسانية أيضا درجات والعقل درجات ،، وأدنى درجات العقل هو العقل المادي البحت الذي لا يعترف إلا بالواقع المحدود الذي يراه ويعيشه ،وينكر تماما ما وراء هذا الواقع الملموس المحسوس ، ويكاد يكون هذا العقل عضوا ملحقا بالحيوان الذي حكينا عنه يعمل في خدمة شهواته ،وذلك بإلتماس المبررات واصطناع المنطق والذرائع لإقتناص اللذات ،، فإن احتكمت في سلوكك هذا إلى العقل فأنت مجرد حيوان متطور تستخدم طلقة المسدس بدلا من المخالب ،وتتآمر بالعقول الإلكترونية بدلا من الإنطلاق وراء غضب عشوائي غير محسوب .
ولكن النتيجة مازالت واحدة ،إنك مجرم وحياتك هي مخطط إجرامي مهما بدت في ظاهرها مهذبة معقولة ومنطقية ،، ألم يقتل ستالين خمسة ملايين فلاح ،ألم يفعل ذلك بحجة منطقية أنه إنما يقتل الرجعية ! ويدفع بعجلة التاريخ إلى الأمام وأنه إنما يقتل الفلاح لنصرة الفلاح ! تلك إذن هي أدنى درجات العقل وأخس منزلة من منازل العقلاء ،، فإذا ارتقيت درجة فأنت تستشعر بشيء وراء الواقع ،، ولكن هذا الإستشعار لا يزيد على شبهة وظن ،، ولكن هذه الشبهة وهذا الظن يؤديان بك إلى أن تكون أقل مادية ،وأقل ظلما وأقل صلفا وأقل غرورا ،وأقل اقتناعا بالمنطق المقفل وبالواقع الغليظ المحدود ،، وبين حين وآخر سوف تظهر عليك بدوات وسوانح تضحية وكرم .. وسوف تعطيك لمسة الغيب بعض المواقف الشاعرية ،، وسوف تتأرجح بين هذه المنازل على حسب مافي نفسك من خير وما في عقلك من نور ،، فإذا ارتقيت أكثر فإن الإستشعار الروحي للغيب والإحساس الصوفي لما وراء الواقع سوف يغلبان على عقلك المسجون في زنزانة الماديات ،وسوف تنفتح لك نوافذ البصيرة والحكمة تضيء الظلمة التي ترين عليك من غواشي الحس ،وسوف يبدو كرم الخلق وكأنه طبعك ،، لكن إستشعار الغيب لم يرتفع بعد ليصبح يقينا ،، وإنما هو مجرد ترجيح ..فإذا حدثك أحد عن وجود الله فأنت تميل إلى تصديقه ولكن ليس لدرجة أن تصلي وتصوم وتدين بالعبادة ،،وغاية ما تبلغ إليه من حال ،أن تعتقد أن هناك قوة ما وراء الأشياء ،،وأنك تخشى هذه القوة .. ولكن ماعدا ذلك غير واضح ،واهتمامك بالدنيا يغطي على هذا الإحساس ،وأنت تمضي في حياتك تحاول أن تحقق أقصى النفع ولكنك تتحرى ألا تؤذي أحدا ،، فإن ارتقيت أكثر فإن الإستشعار الروحي يتضح أكثر وغواشي الحس تنحسر عنك أكثر وأكثر ، ويخالجك اليقين بأنك لست وحدك ،وبأنك لم تكن قط وحدك ،، وإنما كان الله دائما معك وأنت تسمي هذه القوة لأول مرة بإسمها الديني الله وتصفها بما وصفتها به الكتب السماوية من أسماء حسنى وتستند إليها العناية والخلق والوحي ،، وتتفاوت المراقي في هذه الرتبة الشريفة من المؤمن العادي الذي يصلي ويصوم ويتحرى الخير ،ولكن نفسه تغالبه إلى السقوط في الدنيا بين حين وآخر ،،إلى المؤمن صاحب الإيمان الرفيع الذي يعيش في شهود وحضور وامتثال للذات الإلاهية على الدوام فيعبد الله كأنه يراه ،،ومنزلتك في كل درجة من هذه الحالات يشهد عليها سلوكك ،فإذا كنت من أهل هذا الإيمان الرفيع فلا بد من أن تكون أهلاللإحسان ،، تتقن كل عمل يوكل إليك دون نظر للمكافأة ، وتعامل أعداءك بالتسامح والنصح ،وتجاهد الباطل بيدك وقلبك ولسانك ولا تخشى في الحق لومة لائم ،وتزجر شهواتك وهي مازالت همسا في الخاطر وقبل أن تنمو إلى دوافع وأعمال ،، ولا حقيقة لحال إلا إذا شهد عليه عمل ،ولهذا يقلبك الله بين المواقف بين لحظة وأخرى من لحظة تصحو إلى لحظة تنام ،وكل لحظة تضعك في موقف ،، وكل موقف يتطلب منك اختيارا بين بديلات ،ولا يعفيك من الإمتحان ألا تختار ،لأن عدم الإختيار هو في ذاته نوع من الإمتحان ، ومعناه أنك ارتضيت لنفسك ما اختارته لك الظروف أو ما اختاره أبوك ،أو ما اختارته شلة أصحابك الذين أسلمت نفسك لهم ..ويعني هذا أن الحياة تعريك في كل لحظة ،تكشف حقيقتك وتنزع عنك قشرتك لتخرج مكنونك ومكتومك ،، والمكر الإلاهي
هنا هو أن يضعك في موقف بعد موقف ،ومشكلة بعد مشكلة ،وكل مشكلة تتطلب حلا ،وكل حل يتطلب اختيارا ،وكل اختيار يكشف عن حقيقتك رغما عنك مهما حاولت الإستخفاء..وبقدر ما تمتد حياتك يوما بعد يوم ،بقدر ما تتمزق عن وجهك الأقنعة ،ويظهر ويفتضح أمرك وينتهك سرك ..والله يعلم حقيقتك وسرك من البداية ،ولكنك أنت لا تعلم ولا تريد أن تعلم ،لأنك مدع ،وكل منا مدع ،،كل منا يتصور أنه رجل طيب وأنه مستحق لكل خير ،حتى الجبارين الذين شنقوا وسجنوا ،وعذبوا شعوبهم تصوروا أنهم مصلحون ..ولهذا خلق الله الدنيا خلقها لتنكشف الحقائق على ماهية عليه ،ويعرف كل واحد نفسه ويعرف مقدارخيره وشره ،،ثم ليعرف الأبرار خالقهم وربهم ،وليذوقوا رحمته قبل لقائه ،ثم خلق الآخرة لتنكشف فيها حقائق الربوبية ،وعالم الملكوت والجبروت والغيب ،،والله لا يخلق شيء إلا بالحق وللحق ،لأنه سبحانه هو الحق [ ومَا خَلقْنَا السَّمَاواتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنهُما إلَّا باِلحَق] الحجر ٨٥ [ ومَا خَلقْنا السَّماواتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُما عِبين] الدخان ٣٨ [ مَا خَلَقْنَاهُمَا إلاَّ بِالْحَقِّ ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون] الدخان ٣٩ [ مَا خَلَقَ الَّله ذلِكَ إلَّا باِلْحَقِّ] يونس ٥ [ ما خَلَقَ اللَّه السَّماواِت وَالأَرْضِ وَمَا بيَْنَهُماَ إلاَّ باِلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمَّى]لا الروم ٨ [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْناَكُمْ عَبَثاً وَأنََّكُمْ إِلَينْاَ لَا تُرْجَعوُنْ] المؤمنون ١١٥ [ رَبنَّا مَا خَلَقْتَ هَذَا باَطِلاً سُبْحانَك] آل عمران ١٩١ [ الذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَياةَ لِيَبْلوكُمْ أيُّكُم أحْسَنُ عَمَلاً] الملك٢ وما نرى حولنا من تداول الأحوال على الناس من فقر إلى غنى إلى مرض إلى عز إلى ذل، إلى كوارث، ليست أمورا عبثية ولا مصادفات عشوائية ،إنما هي ملابسات محكمة من تدبير المدبر الحكيم الذي يريد أن يفض مكنون النفوس ويخرج مكتومها [ واللَّه مُخْرِجُ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمون] البقرة ٧٢،، خلق الله الدنيا ليحق الحق ويبطل الباطل، ،ومعرفة النفوس لحقائقها ومعرفة الإنسان لخالقه هي الحكمة من خلق الدنيا ،،وحينما تقول الآية [ ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنْسَ إلَّا ليَعبُدون]الذاريات٥٦ فإنها تعني بداهة وما خلقت الجن والإنس إلا ليعرفون ،، لأنه لا عبادة بلا معرفة ،،والمعنى أنه خلقنا لنعرفه ،فإذا عرفناه عبدناه ،وإذا عبدناه تفاضلت عباداتنا ،وتفاضل إيماننا وإنكارنا ،وتفاضلت منازلنا ،وبالتالي تفاضلت استحقاقاتنا حسب ما نتعرض له من امتحانات في الدنيا ،وبالتالي تفضل العطاء من المعطي، وعطاء الله مبذول للكل[ كُلاًّ نُمِدُّ هَؤلاءِ وَهَؤلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّك مَحْظورًا] الإسراء٢٠ ومشيئة الله لا تحدها قوانين لأنه سبحانه مصدر جميع القوانين ،والمشيئة مردودة إلى الله وبالتالي ليست مسببة بحيث يمكن أن نسأل ،ولماذا خلق الله هذا ولم يخلق ذاك ؟ إن “لماذا”هنا لا مكان لها بتاتا ولا يصح أن توجه إليه سبحانه[ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلوْن] الأنبياء٢٣ ومجال التأمل هو الحكمة العامة للخلق وللدنيا ،، وحسب المؤمن الذي يريد أن يقف عند بر الأمان ،ولا يلقي بنفسه في وادي العماء أن يقول: آمنت بكلمات الله على مراد الله وما خفي عني فالله به أعلم .

هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]