هنادي محمد عبد المجيد

الصوفي والبحر‏


الصوفي والبحر‏
مد الرجل ساقيه في استرخاء لذيذ ،ونظر إلى البحر المديد الأزرق كأنه يشربه ويشرب لونه ،وترك روحه ترضع من هذه الشفافية اللؤلؤية والأنوار المتشععة الذائبة في المياه .. شيء ما في ذلك البحر كان يبدو لعينيه ،وكأنه من وراء العقل ومن وراء الحس ،، شيء كالغيب يسطع خلال المظاهر .. ،تذكر كلمات ذلك الصوفي الذي قال إنه اشتاق إلى ربه ، وانه احترق إليه شوقا ،وكاد عقله يهلك عجزا عن بلوغه لولا أن نور الله كان يلوح له من وراء أستار الغيب ،ومن خلال الجمال المتجلي في الوجود فيروي ظمأه بين الحين والحين ،، ذلك هو الشرب والسكر الذي يحكي عنه الصوفية ،، شرب الجمال المتجلي في الوجود ،، ذلك الشرب المغيب الذي يترك الروح نشوانة هيمانة تهتف ،الله ،الله ،، وقد أدرك صاحبنا في جلسته أمام البحر لأول مرة ذلك المعنى البعيد الذي حكى عنه الصوفية ،، وشعر بذلك الشرب المغيب ، وهتفت روحه النشوانة ،وقد أدركت طرفا من تلك الحضرة الإلاهية المتجلية في الأشياء ،، هتفت هيمانة سكرانة ،، الله ،، لقد اتصلت روحه لأول مرة بنبع الحسن ،ومصدر الفتنة وسر الجلال والجمال في الأشياء ،، وباشر تلك الرجفة الكهربائية وأحس بتلك الرعشة الروحية وهو يلامس السر الساري في الوجود نفسه ،، وذلك هو حضور المحبوبة المعشوقة التي كان يسأل عنها المحب الهيمان طول الوقت ،ويبحث عنها ويرتحل إليها وهي طول الوقت معه دون أن يدري ،، في سواد عينيه ،،وفي حنايا ضلوعه ،وأقرب إليه من حبل الوريد ،،ومن عجب أني أحن إليهمو / وأسأل عنهم من رأى وهمو معي،، ،،وترصدهم عيني وهم في سوادها / ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
فما كان الحسن والجمال والفتنة التي لمح طرفا منها في الشفاه والخدود والقدود إلا مددا من ذلك الغيب المغيب ،ولا كان إلا تجليا لذات الحسن المتفردة ،، ( الذات الإلاهية) التي هي أقرب إليه من نفسه ،وأقرب إلى عينيه من سوادهما ،وأقرب إلى لسانه من نطقه ،، إن ليلاه فيه ،،وهو يقطع البوادي بحثا عنها ،، ( وذات الحُسن المتفرِّد) التي أفاضت من حسنها البديع على كل شيء ،أقرب إليه من حبل وريده ،وأوثق إتصالا به من دمه في شرايينه ،، وحينما يدرك الصوفي ذلك يصيبه برد السلام ،ويهدأ في جوانحه طائر القلب ،وتنشر عليه السكينة لواءها ،ويصبح صاحب الوجه النوراني ،والنفس المطمئنة الذي لا تزلزله الزلازل ولا تحركه النوازل ،، شعر صاحبنا بتلك الأنوار وهو جالس أمام البحر ، وأمامه قطف من عنب مثلج ،، ورأى كل حبة عنب وكأنها تختزن داخلها نورا ،، وحينما ذابت في فمه بردا وحلاوة شعر كأنما تعطيه سرها وتبوح له بمكنونها .. وكان في تذوقه لحلاوتها شيئا كالعبادة .. وكأنما كان ربه هو الذي يطعمه ويسقيه مباشرة ،وبدون وساطة ويناوله من كفه الرحمانية ليأكل ويشرب ،، وتذكر قول عميد العشاق الإلاهيين ابن الفارض : شربنا على ذكر الحبيب مدامة / سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم ،، فوصف الشاعر خمرا للكرم من قبل أن يخلق الكرم ، وتلك هي خمر السر المودع في الأشياء من قبل أن تخلق الأشياء ، تلك هي خمر[ فِإذَا سَوَّيْتُه ونَفَخْتُ فِيِه مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين] الحجر ٢٩ ،، خمر الأنوار المودعة في الأشياء ،، وكل مؤمن مازال يعاود السجود مثل الملائكة كلما استشعر هذه الأنوار ،وكلما باشر سرها وذاق حلاوتها سجدت جوارحه وهتفت نفسه ،، الله ،، الله وشوش له البحر بهذه الكلمات ،وكاشفه بتلك الأسرار وهو يهدهده بأمواجه ،ويتناثر كحجاب الماس على وجهه وساقيه ،، وبقدر ماكانت صفحة البحر تبدو له هادئة ساكنة مطمئنة ،كان باطن البحر يقول له ،، باطني وسع العالمين ،، وسع الحياة والموت ،وسع كل شيء علما ،، كان البحر أشبه بالرمز المهموس، والإشارة الدالة والمثل المضروب على القدرة [ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة فِيهَا مِصْبَاحْ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَة الزُّجَاجَةُ كَأنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيْ ُيوقَدُ مِنْ شَجَرةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّة وَلا غَرْبيَِّة يَكَادُ زَيْتُهاَ يُضِيُء وَلَوْلَمْ تَمْسَسْهُ ناَر] النور ٣٥ ذلك هو الضوء في المصباح ،واللؤلؤ في الصدفة ،والروح في الإنسان ،والجمال في البحر ، وتلك هي النفخة التي تدل على النافخ[ يَكاَدُ زَيْتُهَا يُضِيُء وَلَوْلَمْ تَمْسَسْه نَار] فالزيت يسري فيها من الذات المباركة التي تضيء بذاتها بدون حاجة إلى نار تشعلها ،، الذات التي نورها مصدر كل الأنوار ،، وتلك هي الشجرة المباركة المنزهة عن الجهات ،، فلا هي شرقية ولا هي غربية ،، فهي فوق المكان والزمان ومنزهة عن الأسباب ،فهي تضيء بلا نار ،تلك هي الذات الإلاهية المتعالية على الصور ، ومع ذلك تتجلى في كل الصور .[ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ] الحديد ٣ ظاهر في البحر والشمس والنجوم وفي وجوه الحسان ولكنه غيرها جميعا ..هو الظاهر سبحانه ولكنه ليس المظاهر ، وتلك هي الفتنة التي يقع فيها المؤمن والكافر ،، تقول له المظاهر الجميلة وهي تدعوه إلى نفسها بجمالها: [إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ] البقرة١٠٢ فإذا افتتن بها ووقع في أسر جمالها وعبدها وقع في الشرك الخفي وهلك .. وذلك هو حال الأغلبية والكثرة من عشاق المظاهر وعباد المال و الجاه والنساء ،، وإذا أدرك أن فتنتها ليست منها ولكن من الله المتجلي فيها ،، وأنها كالمصابيح في زجاجات ،ولكنها مصابيح لا تضيء بذاتها ،وإنما بمدد وأسلاك من شجرة مباركة هي التي تأتى منها الإنارة لكل المصابيح ،، إذا أدرك ذلك تجاوز بعبادته كل المظاهر وكل المصابيح المنيرة ، وتوجه إلى الله الذي ينيرها كلها بنوره ،، وخرج من زحام الكثرة إلى صفاء الوحدة ،، واختص الله وحده دونا عنها بالعبادة ،، وإذا فعل ذلك نجا وذلك الحال للقلة من العارفين ، وهذا سر الدنيا ، ولهذا خلقها الله ، لتمتحن بإغرائها معادن النفوس ،ويتميز بها العارف من الجاهل ،وتتميز بها المراتب والمنازل والدرجات ،، ويعرف بها أهل الصدق صدقهم ،وأهل الكذب كذبهم حينما تنشر الأعمال وتهتك الأسرار في يوم الحشر ويوم التغابن الذي لا ينفع فيه ادعاء الأدعياء،، يوم يشعر كل إنسان أنه غبن نفسه حينما تعجل لذة تافهة وزائلة لا تساوي شيئا ، وحرم نفسه من ميراث جنة لا تنفد لذائذها ،، ووشوش له البحر ،وهمس الموج ،، وتناثر كالماس على وجهه وقدميه ،واتصل بالسر ومضى الحوار.

هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]