تحقيقات وتقارير
ابوكرشولا .. حرب الظلام للظلام
وكانت وقعت مع المسلحين وثيقة (الفجر الجديد) في يناير 2013م. ثم سرعان ما انكرتها حين ضيقت عليها الحكومة. ولم تنقض أربعة شهور من مأزق المعارضة مع الفجر الجديد حتى وضع المسلحون حلفاءهم في المعارضة المدنية امام حرج جديد في 27 أبريل بغزو عدد من مدن ولاية شمال كردفان بالوسط الغربي للبلاد من معاقلهم في جنوبها حتى صاروا علي مسافة 187 ميلا من الخرطوم. وسموا الغزوة بـ (الفجر الجديد) بغير اعتبار لشركائهم في اسم لم يجف حبر مداد الخلاف حوله بعد.
وكانت الغزوة معرضاً لعنف ضد أهداف مدنية ومدنيين لم يمس القوات النظامية منه سوى ستة عشر شرطياً من حراس البنوك وأبراج الخدمات وبوليس الحركة. وعلي أن اسم مدينة ام روابة هو الذي رشح في الأنباء في اعقاب الهجمة إلا أن ابوكرشولا هي البلدة التي تحملت أذي ذلك الهجوم وزعزعته ودمويته. فلا غلاط أن الهجوم روّع ام روابة وترك خراباً في ابراجها للكهرباء والاتصالات والمصارف والقتل. وحكي أحد الناجين أن المهاجمين أخذوا هاتفه السيار ثم قرر أحدهم جزافا قتله لم يرده عن ذلك أحد، وأطلقوا النار عليه وتركوه فقيض الله له الحياة. ولكن فظاعة الهجمة وضحت في بلدة ابوكرشولا. فروايات الفارين عنها اتفقت أن القتل فيها كان علي الهوية السياسية والعرقية. فقتلوا 16 مواطناً في ابوكرشولا واختطفوا 9 مواطنين إلى مكان مجهول. وأصبح مؤكداً أن ذلك تم علي ضوء قوائم أعدها اعضاء بالجبهة الثورية أسفروا لحظة الهجوم وبلغوا عن جيران ودلوا عليهم. بل تسامعنا عن محاكم إيجازية انعقدت. ومقتل العالم الحافظ محمد أبكر من أوضح الدلائل علي التخلص من الخصم السياسي. فالمرحوم ينتمي للأنصار الذين هم شيعة الصادق المهدي وقاعدة حزبه، حزب الأمة. ولما قاطع حزب الأمة الانتخابات لوالي جنوب كردفان وقف المرحوم مع أحمد هارون من المؤتمر الوطني الحكومي بعصبية القبيلة أو العرق فكلاهما من عرب البقارة. وفاز هارون علي عبد العزيز الحلو مرشح الحركة الشعبية، وقائد الهجوم الأخير علي شمال كردفان، الذي لم يقبل بتلك النتيجة برغم تأمين مركز كارتر عليها. وكانت دوائر ابوكرشولا، في ما يقال، هي التي رجحت الكفة للمؤتمر الوطني. ولو صح هذا التفسير الذائع لكان حديث الحركة الشعبية عن سودان جديد قفزة طويلة في الظلام.
لم ينهض دليل قاطع بعد علي القتل بالهوية العرقية إلا أن فرار 27 ألف من سكان بلدة ابوكرشولا من جملة 48 ألف قاطن أغلبهم من عرب البقارة، من وجه جيش قوامه (هامش) أفريقي لمؤشر علي الترويع العرقي. فغريزة الحياة هرولت بهذه الأعداد الكبيرة في جنح فجر بعيدا من بلدهم إلى معسكرات للحكومة في بلدة الرهد. وهو فرار ربما شهد بأنهم خافوا أن يحاسبوا بجريرة الحكومة الموصوفة بالعربية. وكانت لحظة الهجوم والفرار كيوم يفر المرء من أخيه. فجاء في الصحف عن سيدة اسمها عسكرية وجدت طريقها للهرب من ابنها مستحيلا بعد أن عثرت بأطفال نسيهم أهلهم. فأمنتهم في موضع ما، وعادت إلى البلدة، فأعدت لهم طعاماً خفيا وعلي عجل، وساقتهم بحرص نحو بلدة الرهد بأدركها أهل الخير وأعانوها. واستقبلها النازحون في الرهد استقبال الأبطال فردت لهم عيالهم. بل بدأ الحديث يتسرب ن معسكرات النازحين عن حالات اغتصاب علي العرق أيضاً.
جددت مبادرة المسلحين الحديث عن افلاس المعارضة السلمية لأحزاب الخرطوم التي تعاني من إشكالية ذات قرنين. فهي من جهة لم تستثمر في حقولها التقليدية في النضال المدني لتكون الحليف المستحق للمسلحين. فقد أعفت نفسها من تحليل مجتمع الإنقاذ. وتحولاته الفظة للمجتمع لربع قرن، بحجة أنه غير شرعي وما بُني علي باطل فهو باطل. فهي لا تنفذ بالرؤية لسودان ما بعد الإنقاذ كما يهفو له الناس الذين اكتووا بحكمها ويريدون ضمانه بأن البديل لن يكرر الإنقاذ ولا سابقاتها. ولم تقع المعارضة بعد علي بديل تستنفر به الناس. واستبدلت ذلك بمضغ وثائق ثوراتها القديمة بمطالب مجردة عن استقلال الجامعات والقضاء وغيرها. ولما أصدرت برنامجا للبديل طفح بهذه العموميات بل قالت نصا إن قضايا الاقتصاد والتعليم وغيرها ستناقش في مؤتمرات تنتظر سقوط الحكومة. وبدلا من نقد الواقع لتطرح نفسها كبديل جاذب صارت، في قول أحدهم، عالة علي الواقع.
القرن الآخر للإشكالية أنه لم يتفق للمعارضة بعد انتهاج طريق العنف مع النظام برغم قناعة لم تمل من تكرارها هي أن الطريق السلمي مسدود مع حكومة لا تستجيب إلا لحملة السلاح. وما منعها ربما إلا أنها جربته في سنوات التسعينات حين تركزت كادراتها في اسمرا وعادت منه بخفي حنين. فحاصرها المسرحون من جيوشها بعد صلحها مع الإنقاذ في نصف الألفين الثانية حول حقوق لم توف بها الأحزاب بلغت المحاكم. ثم هي لا تكف تجد العذر حتي لانتهاكات المسلحين لحقوق الإنسان التي ترعاها بذريعة أن عنفهم كان كرها لهم اضطرهم إليه النظام البغيض. وكان الاضطرار لم يطالهم هم أنفسهم دون أن يتنازلوا عن النهج السلمي.
وأحبطت هذه الإشكالية المزدوجة عمل المعارضة. فهي لا تحرك ساكن القوى المدنية حتى اشتهرت عنها عبارة (حضرنا ولم نجدكم) حملها يوما محمد إبراهيم نقد، الزعيم الشيوعي، معلقاً علي مظاهرة رتبت لها المعارضة ولم تقم لها قائمة. وبالنتيجة صارت المعارضة عالة علي العمل المسلح يقوم به غيرها وتنتظر أن تلتقط الثمر. وغايتها منه الضغط علي الإنقاذ ليجبرها علي “حلول متفاوض عليها وتحول ديمقراطي حقيقي” في عبارة لياسر الشريف من الجمهوريين. وقال إن قدوتهم في ضعضعة النظم بعد هزة ليتلطف هي مصالحة الرئيس نميري مع أحزاب الجبهة الوطنية المعارضة بعد هجومها غير الموفق علي الخرطوم في 1976م. واستبشر بأن هجوم الجبهة الثورية، الذي زلزل الإنقاذ وعرّى ضعفها، ربما فتح الطريق لمساومة تاريخية مع النظام. وهذا علاج للنظام بـ (الصدمة الكهربائية) لكي يسخو.
أغرى هزال المعارضة بها. فالحديث الغالب اليوم هو عن (نقد المعارضة) بأكثر من نقد الحكومة. وراحت الأيام، كما قال معارض مخضرم، في التسعينات حين كانت العقيدة هي (لا معارضة لمعارض). فكثيرون يرون الآن أنه ما كان للإنقاذ أن تحكمنا بغلظة لربع قرن بحلول 30 يونيو القادم لولا ضعف معارضيها الفذ. ووصفها كادر فيها، محمد وداعة البعثي، إنهم ناموسة في أذن فيل هو الإنقاذ. وهي في قول قادم جديد لصفوفها يوسف الكودة، رئيس حزب الوسط الإسلامي، جانبت مزاج الشعب لخلوها من دينه وثقافته. وقال عن استفحال الخصومة بين أطرافها إنها “راقدة قرض” والقرض هو القرظ ثمر الطلح مما تدبغ به الجلود. وربما كان المراد هو أنهم في المعارضة يذبح واحدهم الآخر ويفري جلده. فقد أستغرقهم مناقشة الإعلان الدستوري وبرنامج الفترة الانتقالية سنوات ثلاث لم يتواضعوا عند شئ منها بعد. وجاء علي السيد، من حزب الميرغني الاتحادي الديمقراطي، بمجاز آخر عن هوان المعارضة قائلا إنها ضعيفة ولبعضها “دريبات” مع الحكومة. و “دريبات” جمع لتصغير درب “دريب” ويقال لمن احتفظ بشعرة معاوية مع خصم. وعني بهذا هنا حزبه المعارض والشريك في الحكومة وحزب الأمة الذي تعين ابن زعيمه، عبد الرحمن الصادق المهدي، مساعداً لرئيس الجمهورية.
كانت غزوة الثورية لشمال كردفان نافذة أقرب للشمال العربي المسلم من حبل الوريد أطل منها علي قبح الحرب الأهلية التي طالت إلى حد الإملاك. وها هي تطرق باب حوشة الداخلي. ولا يشك أهل أواسط السودان النيلي ان القوي العسكرية التي تنوي الثورية الزحف بها هي جهوية وعرقية في قول الطيب زين العابدين. والأدهي أنها لم تخضع لتدريب يوطنها في ثورية سودانيةشاملة مما تزعم. وعن قيمة التدريب في العسكرية قالت نادين قودمير، الكاتبة جنوب أفريقية الحائزة علي جائزة نوبل، إن الذي يمنع الجيش العنصري الأبيض من قتل السود جميعا أنه جيش حسن التدريب.
لا غلاط أن العصب المسلحة المكونة للثورية ترعرعت في شحن عنصري ضد الثقافة العربية الإسلامية غزته كتابات وعقائد وأوهام خلال الأربع عقود الماضية. من ذلك:
1- جنس كتابي عُرف بـ (كشف مستور الثقافة الإسلاموعربية). وهو ترويع للهامش بالتاريخ (الدراكيولي) للمركز العربي الإسلامي يصدر أغلبه عن شماليين من جالدي الذات للتعافي من عقدة الذنب الليبرالية. وهو أدب هيأ لمقاتلي الهامش تطابق القضاء علي الإنقاذ (أو أي حكومة شمالية) مع القضاء حملة الثقافة العربية جميعاً. فقد أنزعج صحافي متعاطف مع الحركة الشعبية الجنوبية حين استمع إلى جلالات جيشها قبل الانفصال ووجدها دموية مغرقة في العنصرية ضد الشماليين. فبدأ زعمها النضال لبناء سودان جديد للإخاء السوداني بجيش ممرور عرقياً كمن يؤشر يميناً ويلف يسارا. ومتى لم يجد مسلحوا الهامش كفايتهم من هذا الأدب العرقي الأفيوني اخترعوه. فنسب أحدهم لانفصالي شمالي بارز كلمة تحدث فيها عن برنامجه لبناء وطن “نظيف” خال من “الأفارقة” وذر فيها أبيات مثل “لا تاخذ العبد” للمتنبي كمشهيات. وكانت الكلمة مدسوسة علي الرجل.
2- من جهة أخري يقوم أكثر هذا الشحن العنصري المضاد علي إصرار صفوة الهامش أن عرب ومسلمي النيل وغيرهم هم “إسلاموعربيون” أو “مستعربين” في دلالة زيف اِدّعائهم العروبة والإسلام. وكانت مثل هذه التسمية المبخسة دائما مقدمة للهولوكست لأن القاتل إنما يقتل أكذوبة.
3- وصفوا الجماعة العربية المسلمة بـ “المستوطنين” لهجرتهم من الجزيرة العربية لسودان مملوك لغيرهم. ويعني هذا أن إزالتهم من البلد الافريقي شرط وجوب لرد الأمر إلى نصابه. وكانت تلك نذر هولوكست رواندا الذي أراد به الهوتو التخلص من التوتسي، الضيف الثقيل من أثيوبيا. بل كانوا يرمون بجثة الواحد منهم في منابع النيل لكي يحمله التيار من حيث جاء.
أنكرت الجبهة الثورية ثلاثا أنها خربت عمائر خدمات الكهرباء ناهيك عن قتل المدنيين. وللسخرية تحدثت عن حماسة الناس في استقبال مسلحيها ومخاطبة الحلو، زعيمهم، للسكان، تتشبه بالكوماندر ماركوس في المكسيك. وشتان. فهي لم تستجيب بعد لمطلب بعض أنصارها أن تكذب ترويعها للمدنيين وقتلها الناس. ولا تزال تنفي بإطلاق وتتحرى النفي المطلق. ولكن مما يفسد تبرؤ الجبهة الثورية من دماء هجومها الأخير واحدة من أكثر حجج المسلحين عاطفية وخطراً. فهم لا يملون تكرار قولهم إنه لا يصح أن نفرق بين إهراق الدم في مثل ابوكرشولا، لأنها ضمن إقليم العرب المسلمين، وبين نزيفه الطويل بين “الأفارقة” بواسط الجيش السوداني. وسمي كمال عمر المعارض المدني هذا المنطق بـ “وحدة الدم السوداني” فمتي استباحت الإنقاذ النفوس في تلك الأرجاء حسب منطق هذه الحجة، جاز للجبهة الثورية استباحة الدم في غيرها. ولا صدقية للجبهة الثورية حين تتبرأ من دماء “العرب” في ابوكرشولا لأنها ولية دم حسبة عن “الأفارقة” حصريا. فإنهم وإن لم يعملوا القتل في ابوكرشولا كما قالوا فهذا تنازل عنه اليوم لن يلزمهم غداً. وقد وضعت حركة التغيير الآن الشابة مسألة وحدة الدم السوداني بصورة مثلي حين حرمته علي الجميع.
إذا كان جري في ابوكرشولا حق (ولم ينهض دليل من غزاتها علي كذبه) فالثورية تكون ممن قال عنهم مارتن لوثر كنق إنهم يحاربون الظلام بالظلام.
ليس بوسع الظلام طرد الظلام
النور وحده يفعل ذلك
الكراهية وحدها لا تطرد الكراهية
الحب وحده يفعل ذلك
الخرطوم: عبدالله علي عبدالله
smc