هنادي محمد عبد المجيد

نحن أمة لها ذاكرة وحضارة 1‏

نحن أمة لها ذاكرة وحضارة 1‏
الحيوانات تستطيع أن تباشر عملية التوليد بالغريزة ، وهي تعرف كيف تقطع الحبل السُّرِّي ، وأين ومتى تقطعه عن الجنين ،والدجاجة تستطيع أن تميِّز البيْضة الفاسدة بين البيضات التي ترقد عليها فتنبذها وتلقي بها بعيدا ،وتستطيع أن تميز بين البيضة غير الملقحة من البيضة الملقحة ، وهي تقوم بإلهام غريزي بتقليب البيض الذي ترقد عليه كل عدد معلوم من الساعات، ولولا هذا التقليب لماتت الأجنَّة بسبب إلتصاقها بالقشرة ،والفرخ الوليد يعرف أين أضعف مكان في البيضة لينقره ويخرج ،، والنحل يعرف كيف يبني بيوته السداسية بدون مسطرة وبدون برجل ، والنحلات الشغالة العائدة من الحقل تقوم بعمل خريطة طبوغرافية دقيقة بمكان الزهور ،وذلك عن طريق الرقص وعمل إشارات بحركات بطنها تدل باقي الشغالة على جغرافيةالمكان بدقة لا تخيب ،، وأعجب من ذلك كله الطب الغريزي الذي يمارسه حيوان ( الوارا) حينما يلدغه ثعبان ،فإنه يلجأ إلى نوع من العشب الصحراوي يسميه البدو (الرمرام) ويحك فيح جرحه، وقد لوحظ
أن هذا الحيوان لا يدخل في معركة مع الثعبان إلا إذا كان على مقربة من هذا العشب فإذا لم يجده فإنه لا يدخل في مواجهة مع الثعبان ويبادر بالهرب ،وقد أثبتت التجارب أن هذا العشب يشفي بالفعل من لدغة الثعبان ، بمفعوله العلاجي الذي يؤثر على الجهاز المناعي في الكبد ،فمن أين أدرك حيوان الوارا هذه الحقائق ،ومن أين علم بها؟ ذلك هو الإلهام المباشر والطب الإلاهي بلا شك وهو ما أوحى به الله للحيوان مصداقا للآية:[ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذي مِنْ الجِّباِل بيُوتاً وَمِنْ الشَّجَرِ ومِمَّا يَعْرُشونْ] النحل ٦٨ ، وخرج من العرب عشَّابون عظام أمثال داود الأنطاكي وابن البيطار وكوهين العطار وعمار الموصل ،، وقد جاء الوقت الذي نعمل فيه على إحياء تراثنا الطبي العربي ،، لقد قدمت الصين من تراثها الطبي الشعبي أسطورة الإبر الذهبية ،ونحن نستطيع إذا عكفنا على تراثنا الطبي الإسلامي أن نقدم الكثير ،، لقد ظلت أوروبا حتى أوائل القرن التاسع عشر لا تعرف إلاَّ الأقرباذين العربي ،ولا تعتمد في طبها إلا على مخطوطات ابن سينا والرازي والزهراوي وابن النفيس ،، ومازالت
البورق boric -الكحول alcohol -tartar أوروبا تسمي بعض المركبات الكيماوية بأسمائها العربية ،فالطرطير
الحضارة الإسلامية هي الجامعة التي أخذت عنها أوروبا علومها الطبية في عصورها الوسطى المظلمة .. وقد حاول بعض المستشرقين أن يطمس هذا التاريخ ،فقال: إن العرب كانوا مجرد ناقلين ومترجمين عن جالينوس وأبو قراط ،وأن الطب العربي طب منقول عن اليونان والهند والفرس ْومصر ،وليس فيه جهد إبداعي ،وهو افتراء تكذبه مخطوطات الرازي وما جاء فيها من تصويبات كثيرة لأبوقراط ، كما نرى ابن النفيس يُخَطِّئ جالينوس في زعمه بأن هناك ثقبا بين البطين الأيمن والأيسر في القلب وأنهما متصلان ويقول إنه لا اتصال بين البطينين وإن الدم فيهما لا يمتزجان إلا في الحالات المرضية ،، كما نرى البغدادي يصحح ما زعمه جالينوس من أن الفك الأسفل عظمتان ويقول بل هو عظمة واحدة ،، ومعلوم أن ابن النفيس كان أول من اكتشف الدورة الدموية الرئوية الصغرى ،، وقد اكتشفها الراهب الإسباني سرفيتوس بعده بثلاثمائة سنة ونشر وصفا لها في مجلته الدينية ،فلما بلغت هذه المجلة جون كالفين في سويسرا استدعاه إلى جنيف وحاكمه واتهمه بالزندقة وحكم عليه بالحرق ،، بل إن أوروبا لم تنهض من كبوتها إلا حينما أخذت بالنظرة الإسلامية إلى العلم ،، إن تصحيح هذه الأوهام أمر ضروري ، فأسوأ ما تصاب به أمة أن تكون بلا ذاكرة ،، وما أكثر ما استحدث هؤلاء الرواد القدماء في صناعة الطب ،، كان الزهراوي أول من عالج حصوة المثانة بالتفتيت ،، وكانت له محاولات متطورة في علاج البواسير والناصور والأورام السرطانية والفتق ،، وكان الرازي أول من تكلم عن التشخيص المقارن حينما تختلط الأمراض وتتشابه علاماتها ، وقد وصف الجهاز الهضمي بدقة كما وصف تشريح المعدة وطبقات العضلات المختلفة فيها تماما كما نصفها اليوم ،، وفرق بين النزيف المتسبب من القرحة والنزيف المتسبب من بواسير المرئ ووصف أقراص الطباشير للحموضة ،وهو علاج نستعمله الآن ،وقال إن مريض الكزاز يموت مختنقا بسبب تشنج عضلات التنفس وتوقف حركاتها ،وهو كلام علمي دقيق ،، وللرازي رأي جيد في علاج الحروق بالماء البارد ،وتلك آخر صيحة الآن في علاج الحروق حيث توضع الذراع أو الساق المحروقة في الماء البارد لمدة دقيقتين لتقليل الألم ولتقليل فقدان البلازما ،،ويقول ابن سينا في خلع الفقرات ،إن كانت الفقرة الأولى في العنق مات صاحبها اختناقا لأن عصب التنفس ينضغط فلا يفعل فعله ،وإن كانت من الفقرات السفلية لم يمتنع التنفس ولكن يمتنع التبرز والتبول ،وهذا علمي دقيق ،، وقد سبق الزهراوي الجراحين بألف عام إلى اكتشاف جراحة دوالي الساق بطريقة سل العروق وهو أسلوب لم يعرف إلا منذ ثلاثين عاما ،، وقد عرف العرب التخدير ب stripping of veinsإستعمال البرودة الشديدة والأعشاب المرقدة ،كالحشيش والسكران والداتورا والبلادونا،، وعرفوا طب الأسنان وخلعها وحشوها، وقد ذكر الرازي أربعة أنواع من المعاجين والمساحيق لعلاج الأسنان لا تخرج في تركيبتها عن المعاجين الحالية ،، وسبق العرب العالم في ابتكار نظام المستشفيات ،وكانوا في بيمارستان قلاوون يرفهون عن المرضى بالموسيقى وتلاوة القرآن ،وكانوا يعطون كل مريض منحة مالية عند خروجه حتى لا يعجل إلى العودة إلى عمله في فترة النقاهة ،، ومن أقوال الرازي:” ينبغي للطبيب أن يوهم المريض بالصحة ويرجيه بها وإن كان غير واثق بذلك ،فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس “،وتلك نظرة نفسية عميقة من طبيب قديم ،وكان يقول:” لا تعالج بالدواء إذا استطعت أن تعالج بالغذاء وحده ولا تعطي دواءا مركبا إذا استطعت أن تعالج بدواء بسيط ” ،وفي تحرزهم في مسألة الأدوية هذه نرى طبيبا كبيرا من أطبائهم هو أبو العلاء ابن الأزهر الأندلسي يقول:” أقسم بالله أني ما سقيت دواءا قط مسهلا إلا واشتغل بالي قبله بأيام وبعده بأيام فإنما هي سموم ،فكيف حال مدبِّر السم ومسقيه” وهذا طبيب كبير يتردد في كتابة دواء مليِّن ويقلق باله مخافة الإضرار بمريضه ،فأين هذا الطبيب من أطباء اليوم الذين يكتبون المضادات الحيوية والكورتيزون دون تحرز وهي سموم قتالة ، إنما هي أخلاقيات المسلم الذي يخاف ربه ،، وكان العرب أول من استحضر أحماص الكبريتيك والنيتريك والماء الملكي وأيدروكسيد الصوديوم والنشادر ونترات الفضة وكلوريد الزئبق ويوديد الزئبق وكثيرا غيرها ،، وكان ابن سيناء أول من غلف الحبوب بالذهب والفضة ،وكان الزهراوي أول من حضر الأقراص بالكبس في قوالب خاصة ،،واشتغلت المرأة العربية بالتمريض والطب من قديم ،وفي أيام النبي عليه الصلاة والسلام كانت رفيدة الأسلمية تتخذ خيمة في المسجد تداوي فيها الجرحى في الحرب وفي أواخر الدولة الأموية كانت زينب طبيبة بني أود من الماهرات في صناعة الكحالة ومداواة آلام العين ،،وفي القرآن إشارات إلى مسائل مازالت إلى الآن من قبيل الأسرار ،فحينما يشكو أيوب لربه من مس الشيطان:[ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيطانُ بِنَصَبٍ وعَذابٍ] ص٤١ يقول له ربه:[ اْركُضْ بِرِجْلِكَ هَذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَاب] ص ٤٢ الله يصف له ماء الينابيع ليشرب ويغتسل ليذهب عن جسمه من هذا المس الضار ،، وفي آية أخرى عن الماء يقول القرآن:[ ويُْنزِلْ عَلَيْكُمْ مِنْ الَّسماءِ ماَء ليُِطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطان ] الأنفال ١١ فيصف الماء بخاصيتين: خاصية التنظيف والتطهير ، وخاصية أخرى هي إذهاب مس الشيطان ، وفي حديث شريف يقول النبي عليه الصلاة والسلام في علاج المحسود:” يتوضأ الحاسد ويغتسل المحسود من وضوئه” إنه الماء مرة أخرى يوصف ليذهب المُسُوس الروحية الضارة التي أحدثتها العين ،، فما هي تلك الخاصية الغيبية للماء ؟ ،، وفي الإسلام لمحات من الطب الوقائي لو اتبعتها البلاد الإسلامية لإختفت البلهارسيا والإنكلستوما من القارة الأفريقية، ولوفرت الملايين التي تنفق على العلاج بلا جدوى ! فقد نهى النبي عن التبرز في الماء وفي الظل وفي طريق الناس وفي الحديث الثابت:” ولا يبولَّن أحدكم في الماء ،وفي الظل وفي طريق الناس” والنظافة أول الشعائر الدينية عند المسلم ،فلا صلاة بغير وضوء ولا إسلام بغير غسل ولا ملبس إلا الطاهر ،، يقول القرآن:[ وثِياَبَكَ فَطَهِّر] المدثر ٤ ،والقرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي نص على الطهارة والنظافة والإغتسال ،، وقد وضع الإسلام الأسس الثابتة للصحة النفسية ،وذلك بالصبر والتوكل والتسليم والتفويض والحمد والشكر بعد الإجتهاد وبذل الوسع[ قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إلَّا ماَكَتَبَ اللهُ لنَا] التوبة ٥١ [ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] البقرة ٢١٦ [ قُلْ يَا عبِادِي الذَّينَ أسْرَفوا عَلَى أنَفْسُهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّه إِنَّ اللَّه يَغْفِر الذنُّوَب جَمِيعًا] الزمر ٥٣[ ولاَ تيَأَْسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّه إنَِّهُ لَا ييَْأَسْ مِنْ رَوْحِ اللَّه إلَّا القوْم الكاَفِرون] يوسف٨٧ ،، وذلك هو الطب النفسي الإلاهي الذي عجز فرسان الطب النفسي أن يلحقوا به والذي مازال هو الباب الوحيد للسكينة والأمن حينما تسد جميع الأبواب ،، والحمدلله

هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]