عن الظاهر والباطن
توقَّفتُ أمام صفحة البورصة وسوق الأوراق المالية أتابع تلك الرقصة المجنونة للأرقام، وأسائل نفسي، تُرى ألنا نحن البشر أيضا بورصة وأسعار تنخفض وترتفع ويبور الواحد منَّا أحيانا ويروج أحيانا وتفلس قيمته أحيانا أخرى؟ إني أرى الطفل الرضيع ابن المليونير تتخاطفه العصابات وكأنه قطعة من الماس وتُطلب فيه الملايين فدية،، ثم أرى نفس الشخص في شبابه إنسانا متلافا مستهترا، ثم أراه في رجولته مجنونا وقاطع طريق، ثم أراه في شيخوخته معلقا على حبل مشنقة ولا أحد يعبأ به ،،وأرى طفلا آخر يبدأ حياته في ملجأ للأيتام، ثم أرى نفس الطفل في شبابه وقد أصبح فنانا ونجما متألقا مثل عبد الحليم حافظ توزن ساعات صوته بالملايين،، وأرى السجين في زنزانة لا يسأل عنه أحد يصبح بين يوم وليلة زعيما مثل لينين يحكم نصف العالم بنظرياته ثم أراه يموت فتتحول جثته إلى صنم معبود، وكعبة يطوف حولها الألوف، وأرى النبي يحيى عليه السلام تقطع رأسه بأرخص سعر قطع به رأس، تلبية لهوى امرأة عاهرة ترقص عارية أمام الملك، فيقول لها الملك المخمور، اطلبي ما تشائين ثمنا، فتقول: أطلبُ رأس هذا الرجل فيقطع لها رأسه على طبق ! ، وأرى الراهب ستالين يتحول إلى الملحد ستالين، ثم إلى الحاكم الجبار الذي يحرك التاريخ، والدكتاتور الفرد الذي يعز ويذل ويخفض ويرفع بإشارة من يده، ثم أراه بعد الموت ينتكس إلى مجرم ويدين شعبه، وينبش تابوته وتحرق جثته ويلقى بها في حفرة،، وأرى الطفل البليد في المدرسة يصبح آينشتين ، وأرى موظف البنك يصبح يوهان شتراوس، وأرى فان جوخ الذي عاش ومات شحاذا يتحول بعد موته إلى بورصة متحركة من الملايين يتسابق تجار اللوحات، ولصوص التحف على تركته الفنية التي لا تقدر بثمن، ويصبح توقيعه المزيف أغلى من توقيع مليونير حقيقي،، وتلك أسعارنا بين الهبوط المجنون والإرتفاع المجنون في تلك البورصة الدنيوية التي تبدو وكأنها العبث،، لا ينجو حتى الأنبياء من هذا التقلب في الأحوال بين البسط والقبض،، وماهو بالعبث وإنما هو تمحيص وفرز وفصل للعناصر بالغليان والتبخر والتبلور،، ولكنها دائما بورصة خادعة لا تدل تقلباتها السعرية الظاهرية على قيم الناس، فإن النبي يحيى عليه السلام الذي قطع رأسه بأبخس الأسعار بمجرد إشارة من إمرأة بغي ومات كأهون ما يكون الموت، وألقيت جثته في حفرة دون احتفال ودون مشيعين ،، ذلك السعر البخس لرجل لا يدل على هوان صاحبه عند الله، كما أن لينين الجالس على عرش نصف الكرة الأرضية والذي مات فشيعته الملايين ورثاه الشعراء وتحول جسده المحنط إلى صنم معبود وتحول مرقده إلى كعبة، ذلك السعر التشريفي الرفيع لرجل ،لا يدل على شرف صاحبه عند الله ! إنما هي قيم ظاهرية ،، وإنما هي بعض ما تتقلب فيه النفس أثناء عملية تمحيصها بالغليان والتبخير ،، ولا تنكشف القيم الحقيقية للنفوس إلا بالإستخلاص الأخير لجواهرها، وإخراج مكنوناتها في ذلك اليوم الهائل ،يوم يبعثنا الله بعد الموت، يوم تبرز حقائقنا عارية بين يدي خالقها في تلك الساعة الرهيبة التي وصفها الله بأنها ستكون ( خافضة رافعة) حيث تعود فتخفض ملوكا جبارين إلى حضيض الهاوية ،وترفع رجالا صالحين كانوا في حياتهم خاملين مغمورين لا يساوون شيئا إلى قمم العزة والكرامة ،، وحين ذاك فقط تثبت الأسعار إلى الأبد ،فالأعلون يظلون في عليين والأسفلون يظلون في الأسفلين ،وتصبح مكانة كل شخص دالة عليه ،، فذلك هو عالم الحق ،،حيث كل نفس قد انكشفت منزلتها الحقة ،وبلغت رتبتها الحقة ،، وانتهى ذلك التقليب في الأحوال الذي جعله الله في الدنيا امتحانا للعقول وفتنة للنفوس ،، وإني حينما أستعرض حياتي وما تداول عليها من تقلبات وما لا بسها من انخفاض وارتفاع ،أشعر بأني ألامس هذا السر ،، فإن ما باشرته في هذه الحياة من متع ولذائذ أشعر الآن بإنصرامها وأنا أتأملها من البعد أنها لا شيء تماما ،وأن حكمها حكم الآلام والمشقات التي انقضت هي الأخرى وانصرمت، بل ربما كانت المشقات أكرم على نفسي بما خلفت من بصيرة وفكر واعتبار وجلد ومصابرة ،وبما أضافت إلى نفسي من أبعاد إيجابية ،، ولذا ما أراني وجدت نفسي مرة أهفو إلى العودة إلى صبوة أو أرغب في استعادة لذة ،أو أهدهد حنينا إلى أن يكر بي العمر راجعا ليقف عند متعة عزيزة ،،ذلك ما أراني قد شعرت به أبدا ،،ربما لإحساس شديد الوضوح بأن نهر الوعي يضيق كلما رجعت إلى الوراء مع صبوات العمر ،يضيق بلذَّاته كما يضيق بآلامه ،وأن الوعي دائما إلى اتساع والرؤية إلى اتساع ،والعقل إلى نضج ،والشخصية إلى تكامل كلما تقدم العمر ،، ولهذا لا أحب أن أعود إلى نقص مهما حمل إلي هذا النقص وعودا باللذة فإني لا أراها الآن على البعد لذة ،،بل أراها مرضا وحماقة وأرى القيم الظاهرية لتلك البورصة الدنيوية تنتكس في وجداني وكأنما تقوم قيامتي ،الخافضة الرافعة من الآن ،فتنقلب المدلولات فإذا باللذة ألما وإذا بالألم لذَّة،، وتلك صحوة لا أساوم بها على أي متاع ،، وإن كان في العمر لحظات أعتز بها فعلا فهي لحظات الصحو أمثال تلك اللحظة ،حينما تتراءى الحقيقة من خلف سراب الوهم وتلامس الروح السر من وراء لثام الواقع ،فأرى النفوس على ماهي عليه حقا ،وليس كما تصفها بورصة الواقع بأسعارها الخادعة ، وهي دائما لحظات تشملها الرجفة والرهبة والخوف من أن ينكشف جوهري أنا الآخر في الختام على مالا يرضيني ،وأن أكون من أصحاب المعادن الدنيا ،التي هي حطب النار ، وذلك هو الغيب المخيف في أمر الخواتيم التي لا يعلمها إلا الله ،،،
كان ذلك ختام مُؤَلَّفْ المفكر الإسلامي الدكتور مصطفى محمود رحمه الله ،، وإن ما يُمَيِّزْ كتابات هذا الإنسان العبقري أنه استطاع أن يصف ويحدد الصفات والمشاعر والمكنونات الإنسانية بطريقة يعجز عنها الكثير منا ، حينما تقرأ له تشعر أنك كاتب هذا الحديث لأنه يعبر عنك بدقة تعجز أنت نفسك أن تعبر بها عن نفسك ، هكذا تَميَّز هذا العالم الكبير الذي سبر أٌغوار النفس البشرية وخاض غمارها ليعطينا زبدة رحلته الطويلة في البحث عن حقيقة وجودنا ، فكان لنا زادا يعيننا على المضي على الطريق المستقيم الذي أختاره الله لنا، إلاَّ أن الحديث عن كتاباته لم ينته بعد فلنا وقفة أخيرة نختم بها كتابه ( القرآن كائن حي) ،، والحمد للههنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]