السودان في عيون عالم مصري
عن السودان كتب المفكر الدكتور مصطفى محمود مقالا عقب رحلته عبر القارة السمراء البكر ،ففي ستينيات القرن الماضي قرر زيارة الأدغال الأفريقية ، وكان الدافع لهذه الزيارة ،هو فضول المعرفة ،وعطش العلم ،والرغبة في الكشف عن أسرار الغابة الأفريقية التي مثلت له عالما من التيه المجهول الجديد كلياً ،كُتِبَ هذا المقال قبل عهد ليس بالقريب إلا أن العلم لا حدود لصلاحيته ،وإليكم ما كتب دون أي حذف أو تشذيب لمقاله ،:” السودان تيه شاسع ،مليون ميل مربع فيها كل صنوف النبات والحيوان وكل ضروب الأجناس البشرية وكل ألوان الطقس من جفاف شديد، إلى رطوبة ،إلى حر لافح ،إلى أمطار هادرة ،إلى صقيع ،، الجنس الحامي والسامي والزنجي في أخلاط وأمزجة وكوكتيل من كل الدرجات ،سواد كالأبنوس ،سمرة نحاسية ،سمرة خمرية ،ألوان قمحية فاتحة ،تقاطيع أوروبية دقيقة ،تقاطيع زنجية غليظة ،ملامح عربية ،سمات مصرية ،، في قبائل بني عامر تجد ملامح الجنس الحامي في صورته النقية ،الشعر المتموج ،والأنوف المستقيمة والبشرة الخمرية، والقامة المعتدلة ،والجنس الحامي هو الجنس الذي انحدرت منه الشعوب الفرعونية ،وأصله في آسيا والقوقاز ، وفي قبائل الرشايدة والبقارة تجد ملامح الجنس السامي في صورته النقية ،الوجوه السمراء المستطيلة العربية والقامة الطويلة كالرمح ،وعلى خط الإستواء تجد الملامح الزنجية الصرفة، الشعر الأجعد والأنوف المفرطحة والشفاه الغليظة المقلوبة ،وحاصل جميع كل هذه الصفات تجده في كل مكان نتيجة التزاوج المستمر على مدى الأجيال ،،وكل شيء في السودان بالألف وبالمليون ،الثروة الحيوانية بند الماشية وحدها ٢١ مليون رأس ،الطيور الملونة أسراب من ملايين لم تجرو مصلحة إحصاء على عدها بعد، الأمطار كذا مليار أمتار مكعب ،، مديرية كردفان وحدها مساحتها مثل مساحة فرنسا ،،وهي واحدة من عدة مديريات في السودان ،، ولكن الشيء الوحيد القليل والنادر هو التعداد البشري ،كل السودان بمتاهاته الشاسعة تعداده ١٢ مليون وفي آخر إحصاء رسمي في سنة ١٩٦٠ عشرة ملايين ومائتي ألف بالضبط ،مديرية كردفان التي هي مساحة فرنسا تعدادها مليون وسبعمائة ألف في الوقت الذي تزيد فيه فرنسا على أربعين مليونا ،، الخرطوم أكثر المدن ازدحاما تعدادها نصف مليون أي أقل من تعداد شبرا ،والنتيجة أن ثروات السودان كلها مازالت مكنوزة في التربة وفي الماء وفي الغابة ،بلا تشغيل، ولا توجد الأيدي الكافية لإستخراجها،، والأيدي القليلة الموجودة يشلها الحر اللافح وترهقها المسافات الطويلة ،بلا طريق وبلا مواصلات سريعة ، ومع ذلك فالحكومة بالموارد البشرية القليلة (وبالميزانية المحدودة صنعت الكثير ) مشروع مثل مشروع الجزيرة ،روى مليون وثمانمائة ألف فدان وشغل ٣١ ألف مزارع وأنتج أقطانا ممتازة طويلة التيلة ،وتأميم المشروع في سنة ١٩٥٠ حول اقتصاديات المنطقة إلى إقتصاديات اشتراكية وحقق دفعا ثوريا هائلا ،، ومشروع كمشروع خشم القربة الذي يجري العمل فيه الآن سوف يروي مناطق أوسع ويحقق تقدما أكبر ،وحينما دخلت الخرطوم لا حظت أكثر من شارع جديد تم تخطيطه ،،والخرطوم مدينة من طراز فريد ، فهي تجمع خصائص الريف وخصائص المدن ،فهي أشبه بالضواحي ،أشبه بالمعادي عندنا ،شوارع واسعة هادئة ،وبيوت متناثرة متباعدة لا يزيد الواحد منها على طابق واحد ولا يوجد في الخرطوم التناقض الحاد الذي يستفز الأعصاب الموجودة في نيروبي ودار السلام بين سرايات الإنجليز وأكواخ الزنوج ، فلا انجلترا هناك ،ولا زنوج ،ولا أكواخ ،ولا سرايات ،وإنما فيلات على الأكثروالطبقة المتوسطة هي الأغلبية ،وسكان البلد قليلون،والشوارع تخلومن روادها بعد العاشرة مساءا ،وتشعر أن المدينة نامت وتمشي عدة كيلو مترات على شاطيء النيل في جو شاعري ملهم ولا تعثر على فتى وفتاة في حالة انسجام، ولا تعثر على الأكثر إلا شلل متناثرة تشرب البيرة في مشارب على الشاطيء، وكلها من الجنس الخشن ،، شيء غير طبيعي، والنتيجة أن الشباب يبحث عن السلوى في البيوت المرخصة، والسوداني وديع جدا ورقيق وعاطفي وهادئ، وفي الأيام العشرة التي عشتها في الخرطوم لم أعثر على خناقة واحدة ،،،واللهجة السودانية تشبه لهجة الصعيد عندنا ،لكنها أسرع وتنطق خطف ،ربما للتدفق العاطفي ،في طبيعة السوداني ،وهذا الخطف السريع في مقاطع الألفاظ هو السبب في ظهور كلمات سودانية خاصة مثل: هسع: هذه الساعة ، ماخساني: لا يخصني ،ماكويس: مش كويس، ما معقول:غير معقول ،بالله: والله ،جداد:دجاج ،كيفك: كيف حالك ،هناي:الحاجة اللي هنا ،الكتاحة: الزوبعة الترابية ،وكل التعديلات التي دخلت على الكلمات هي تعديلات اختصار ،خطف للمقاطع المتعددة في مقطع واحد ،فهي ليست لغة خاصة ،وإنما هي اللغة العادية منطوقة بسرعة ،،وسرعة الكلام عند السوداني لا تدل على عجلة ،لأن السوداني بطبيعته غير متعجل ،ولا يوجد أكثر من الوقت في الخرطوم ،وإنما السرعة في الكلام دلالة عاطفة ،وهذه السرعة تظهر مرة أخرى في الموسيقى السودانية ،المقاطع الموسيقية كلها سريعة نشطة ،ولا يوجد في السودان غناء كلثومي، ذلك الغناء المتمهل ذو المقاطع الطويلة البطيئة لا يوافق المزاج السوداني ،وأغنيات عبد الحليم وموسيقى عبد الوهاب تجد عندهم صدى أكثر ،، والحر في الخرطوم شديد القسوة ،وبرغم وجودي في الخرطوم في الأيام المفروض أنها أيام شتوية باردة ،فقد كانت الشمس تضرب رأسي بعنف كأنها تهوي عليها بقدوم ،وكنت أشعر بعد دقائق من المشي في الشمس أن رأسي ورمت تماما ،،وأن عظام رأسي تؤلمني ،ولم يكن شرب الماء يسعف، فالجفاف شديد ،والماء يتبخر من اللسان والجلد بسرعة ،والصوت يبح ويصبح مشروخا لكثرة ما يتبخر من اللعاب ،،ومقاس الأكواب في الخرطوم ثلاثة أضعاف مقاس الأكواب عندنا ،وزجاجة الكوكاكولا مقاسها دوبل لهذا السبب، والزير يثلج الماء مثل الثلاجة ،لأن الماء يتبخر من على سطحه بسرعة هائلة وبالتالي يخفض درجة حرارته بسرعة أيضا ،،والجلد في الأيام الحارة يجف ويتشقق من الجفاف ويحتاج إلى الكريم والمرطبات بإستمرار ،والفرق بين الشمس والظل أكثر من عشر درجات ،لدرجة أن مجرد انتقالك نصف متر إلى الظل كأنك سافرت إلى الإسكندرية ،، والفرق بين معدلات الحرارة في النهار والليل شاسعة ،بدرجة أنك تلبس قميصا على اللحم بالنهار وبلوفر صوف ثقيل على بدلة كاملة بالليل ،والجو مع هذا محتمل فيما عدا (مايو ويونيو ويوليو) والذين جربوا حر أسيوط يمكنهم أن يتصوروا جو الخرطوم فالإثنان جوهما متشابه ،، والحر والجفاف يؤديان إلى الإسترخاء الشديد والكسل ،وتكييف الهواء في مثل هذه الظروف يصبح كعملية الإسعاف والتنفس الصناعي لطريح يعاني الإختناق والإغماء ،والنظر الذي يشاهد في أكثر من مكان في الخرطوم هو موائد البيرة والشلل التي تلتف حولها في دوائر وتكرع الزجاجة بعد الزجاجة ،، ويبدو أن هذه العادة هي بديل طبيعي لعدم وجود الإختلاط ولقلة النوادي والسينمات وأماكن السهر ولشدة الجفاف ،،وساكن الخرطوم في المتوسط أكثر ثقافة من سكان القاهرة وأكثر عكوفا على القراءة والإطلاع وأكثر جدية في قراءته، والظاهر أن الشارع عندنا في القاهرة مسلي لدرجة أن الواحد منا يحتاج إلى كثير من الضغط على نفسه ليغلق على روحه الباب ويفتح كتابا ،،وهو إذا استطاع أن يقاوم إغراء الشارع لن يستطيع مقاومة إغراء التلفزيون، أو الوقوف في الشباك ،والنتيجة أن ينتهي اليوم بدون محصول ثقافي يذكر ،،والتربية على القراءة ليست في حياتنا كما في حياة السوداني ،ونحن نعوض هذا النقص في الإطلاع بالتهريج والنكتة الذكية ،،والسوداني لا يهرج كالمصري ،بل هو على العكس مهذب جدا ،،وإذا سألت أحد السودانيين خدمة تسابق عشرة إلى تلبيتك ولو أنني بدأت أروي أسماء الذين طوقوني بمحبتهم لملأت الأعمدة الباقية بالأسماء، ولكنت بعد ذلك ظالما للمجهولين بلا أسماء ،الكثيرين بلا عدد على طول الطريق الذين قدموا إلى المحبة والمعونة بلا معرفة ،وفي أم درمان كما في الموسكي عندنا ،تلتقي بهذه الصفات الشعبية أكثر وأكثر كما تلتقي بالأطعمة الشعبية الأصيلة فتشرب (الأبريه) وال(الحلومر) وتأكل (الكسرة والملاح) وتمشي في شوارع مزدحمة بالصناعات المحلية كسوق العاج ،، وقد عشت أيامي العشرة في الخرطوم أتعرف على الحياة الإجتماعية فيها ،وأبحث في المكتبات عن كتب في الجنوب ،وفي القبائل الإستوائية تلك البقاع التي خلفتها ورائي في تنجانيقا وكينيا لتعود لتشدني مرة أخرى إلى رحالها في السودان ،،وكنت أتأهب إلى السفر في شوق ،وحين ركبت الباخرة النيلية نازلا من الخرطوم إلى كوستي إلى غابات الجنوب وانقطعت صلتي مرة أخرى بالمدينة، شعرت أني عدت إلى الحياة التي عشقتها ،وكانت تمر أيام كاملة لا تقع عيني على انسان ،لا شيء سوى مسرح تعج فيه التماسيح ،وتتقاطر قطعان سيد قشطة لتسد طريق الباخرة ،وتسبح نباتات الهياسنت في جزائر عائمة يجرفها التيار ويدفعها بشدة نحو الشمال ،،وعلى الشاطئين كانت ترى سهول على مدى البصر مملوءة بنباتات البردي وأعشاب السافانا وتمرح فيها الفيلة في أسراب،، وفي الجو تزقزق العصافير الملونة حشرات الحباحب المضيئة وتتألق لتجتذب البعوض ثم تنقض عليه وتأكله ،وكانت الغرفة على يميني بها سائح ألماني والغرفة على يساري بها سائح أمريكي والغرفة فوقي بها عالم هولندي وعلى الدك مجموع من زنوج الشيلوك والدينكا والنوير ،وفي الممرات الضيقة كنت أسمع أكثر من عشر لهجات لا يستطيع أي منها أن يفهم الآخر ،،ووجدت نفسي أطلق ذقني وأمشي بلحيتي على سطح المركب دون أن أشعر بغرابة ،تماما كما يسير الزنوج عراة على طبيعتهم حولي وكلما توغلت المركب جنوبا تخففت من قطعة من ثيابي حتى أصبحت في النهاية أسير عاريا إلا من الكلسون ،وكنت أتذكر الخرطوم أحيانا ،من هذا البعد الشاسع فتبدو لي بلدا غريبا في شمالها القاهرة الباريسية بالجابونيز والديكولتيه والبلوزات ،وفي جنوبها زنوج بور وملكال بورق التوت، وأحيانا عرايا بدون ورق التوت وهي في الوسط تخنق نفسها بالثوب وتغطي مواطيء الفتنة حتى المنكبين وتقيم سدا منيعا بين نسائها ورجالها ،لا متنفس فيه لإختلاط ،أو عاطفة أو علاقة ،إلا برخصة وبطريقة غير مشروعة ،ولم أكن أفهم لهذا التشدد معنى ،كان يبدو لي تشددا أقرب إلى التشنج ،منه إلى العفة ،وفي الناحية الأخرى كان هناك قلة النسل التي تهدد كل هذه الثروات بالبوار ،، تعداد من عشرة ملايين في متاهات شاسعة ،الثمار تقع من على أشجارها وتتعفن دون أن تجد من يأكلها ،والأرض تنبت ما تشاء من عشب شيطاني دون أن تجد من يزرعها ،والمرأة في الخرطوم حبيسة البيت خوفا من أن تحمل في الحرام ،، أي حرام؟ إن هذا العطل الذي تعيش فيه هو الحرام ،، إن الثمار تصرخ منادية على من يقطفها ،والأرض الخلاء تصرخ منادية على من يعمرها ،وكل شبر فراغ يتضرع إلى أنثى لكي تحمل وتلد ، والخطة الإجتماعية كانت يجب أن تشجع الرغبة الطبيعية بين الرجل والمرأة ،وكقوة دافعة لها ظروف الإختلاط الطبيعية لتؤتي أقصى ثمارها بالتزاوج ،إن المرأة في قبيلة الجيكيو التي تذهب بفطرتها السليمة إلى زوجها بعد سنة من الزواج لتحرضه على الزواج بأخرى ليزداد عدد الأولاد في العائلة منطقها أكثر سلامة من كل هذا التعقيد الذي جلبه التمدن على الحياة الإجتماعية في الشمال ،،إن حياة الغابة البيسطة المباشرة تبدو لي مفهومة أكثر ،،إن هذه الإرادة الأنثوية التي تواجه بها المرأة عوامل الإنقراض والفناء التي تعمل مناجلها في ألوف الزنوج حصدا ،وتبقي على القبيلة برغم كل شيء هي الفضيلة ذاتها ،،ولو أن بنت الجنوب عاشت في التزمت الذي تعيش فيه بنت الشمال لإنقرض جنسها كله وامَّحى من الخريطة ،إنه إلهام الطبيعة ،يضع ناموس الأخلاق ليكون ناموس بقاء قبل أن يكون مجموعة تعاليم نظرية ،الطبيعة تنادي أهل الشمال ليتخففوا قليلا ،،بعض الحرية وبعض البحبحة ومزيد من الإختلاط ومزيد من الزواج ،، وأغمض عيني إن قلبي هناك في أعماق الغابة “.عزيزي القارئ لم أرهق نفسي لنقل هذا التقرير إليك عبثا ،،رجائي أن تقرأ مابين السطور لتجد المغزى الحقيقي من هذا السرد الشيق الغني بالتورية .هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]