هنادي محمد عبد المجيد

عن الفن والدين‏

عن الفن والدين‏
الفن والدين كلاهما يتنافسان على القلب ،وما أكثر ما أصابت الغيرة رجال الدين فرموا الفن والفنانين بالكفر ،وما أكثر ماتصالح الإثنان فانضوى الفن خادما للدين يرسم له المحاريب ويزين السقوف وينحت التماثيل ويرتل الأناشيد ،وفي مصر مشرق الحضارة والأديان كانت مسيرة الفن والدين واحدة ،،شيد الفن للدين المعابد والأهرام والمسلسلات وأبدع له الأغاني والتراتيل ،وصمم له الرقصات، وكان موكب جمال وزينة لرجال الكهنوت،، وفي كنائس الفاتيكان أبدعت ريشة (مايكل أنجلو ) و(روفاييل) في رسم الجدران والسقوف وتألق فن البناء القوطي في بناء الأبراج ،وفي العصر الإسلامي ازدهرت العمارة والزخرفة ،ووصف القرآن الشعراء فقال : إنهم قوم يهيمون في كل واد،وأنهم أهل غواية ولكن منهم الصالحون المؤمنون ،[ وَالشُّعَرَاءُ يَتْبَعُهُمْ الغَاوُونَ ،ألَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونْ ،وَأنَّهُمْ يَقُولُونَ ماَ لَا يَفْعَلونْ ،إِلَّا الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصَّالِحاتِ وَذَكَروا اللَّه كَثيِراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظَلَموا] الشعراء٢٢٧ فلم يرفض القرآن الشعر ولا الفن بإطلاقه وإنما جعل من الفنانين فريقين ،فريقا من أهل الكذب ،وفريقا آخر من أهل الصدق والإيمان ،فأقام بذلك موازين ثابتة للحكم على الفن وتقييمه ،، ثم جاء بعد ذلك أهل التطرف والمغالاة فحاربوا فن الرسم والتصوير والنحت وحرموه على إطلاقه ، كما حرمو الموسيقى والغناء والرقص ، وسمعنا اليوم من يقول إن السينما حرام على إطلاقها ،كما أن المسرح حرام والتلفزيون حرام وكلها موجات من التطرف والتعصب لا أساس لها في قرآن أو عقيدة ،، وكلنا نعلم من السيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام استمع إلى شعر الخنساء واستزاده واستحسنه ،،كما أن القرآن فرق بين الفن الهابط والفن العالي ، وهو ميزان ينطبق على كل فروع الفن ، وفي الموسيقى هناك السيمفوني الذي يحرك الوجدان وهناك موسيقى الجاز التي تحرك الغرائز ،وفي المسرح هناك مسرح العبرة والحكمة والعظة ،وهناك مسرح الهزليات والنكات الرخيصة ،وفي السينما هناك الفيلم التاريخي والفيلم العلمي والفيلم التسجيلي ،وهناك الدراما العظيمة التي تربي وتعلم كما أن هناك أفلام الإثارة الهابطة والبرونوجرافي الفاحش،، وفي الأغنية هناك القصيد الجميل كما أن هناك الأغنية السوقية العارية ،، كما أن تحريم الرسم والتصوير والنحت قياسا على ما جاء من أحاديث نبوية في هذا الباب قياس خاطئ فالنبي حرم الصور والتماثيل لأنها كانت تعبد وتتخذ في البيوت آلهة ،، أما الآن فلا أحد يعبد صورة ولا أحد يسجد لتمثال ،ثم دعونا ننظر إلى آيات صنعة الله في الطبيعة ،ألا نراه خلق طيورا تغني ،وعصافير تغرد ،وخيولا ترقص ؟ ألا نراه قد رسم أجنحة الفراش وزخرف الطواويس ونحت أجسام الحيتان وعرائس البحر كأنها الغواصات في انسيابها وجمالها ؟ ،، ثم تعالوا بنا نسأل : ماذا تفعل بنا مشاهدة مسرحية لشكسبير أو الإستماع إلى سيمفونية لبتهوفن أو رؤية باليه بحيرة البجع ؟ هل تنحط بنا هذه الفنون أو ترتفع ؟ هل تستحضر في الذهن شهوات غريزية أو تستحضر خيالات ملائكية ومعارف إلاهية ؟ إن الفن الراقي يقيم معبدا للجمال في القلب ، وهل ربنا إلا الجمال والكمال والحق والخير ؟ إن القرآن على ترفعه وقداسته قد روى لنا جانبا جنسيا من حكاية يوسف وامرأة العزيز ،وكيف غلقت امرأة العزيز الأبواب وقالت هيت لك ،وكيف همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ،وكيف وجدوا أن قميصه قطع من دبر فعلموا من ذلك أنها هي التي راودته عن نفسه ،ولكنها كانت لمحة خاطفة للعبرة لم يعمد القرآن فيها إلى إفاضة وتجسيد وتفصيل وإثارة فلا يتنافى هذا مع جلال الهدف وجمال الأثر ،، ومن ذلك نفهم من آيات الله في كتابه ومن آيات الله في كونه أن الفن والجمال كالعلم والفكر نشاط إنساني محمود وعظيم وأنه من آثار نفخة الله الربانية في ُآدم ونسله ،وهي النفخة الروحية التي استوجبت سجود الملائكة وتسخير الكون لهذا المخلوق من طين [ إنِيِّ خَالِقٌ بَشَرٌ مِنْ طِينٍ ، فإَذا سَوَّيتْهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعوا لَه سَاجِدِين ]ص٧٢ أما الغلاة والمتطرفون الذين يريدون تحريم كل الفنون على إطلاقها فهم من الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ،[ وَيَأْبَى اللَّه إلِا َّأَنْ يُتِمَّ نُورَه]التوبة٣٢ وهم الجاحدون بنعمة الله حقا ، أو لعلها الغيرة من دائرة الضوء التي يقف فيها الفنان محاطا بجمهوره ،، أو لعلها الفتنة التي تورث الفنان الغرور فتهبط به من رفيف الملائكة إلى وسواس الشياطين ،وكل الواقفين في دائرة الضوء معرضون لدوار الرءوس وغواية النفوس إلا من عصم ربك ،، ولكن تظل قضية أخرى غير قضية الفن ومكانه ،فقد بدأ الإنسان يرسم ويصور من بدايات العصر الحجري فكان فنه علامة على إنسانيته ولا يزال ،، والفنان مهما طوحت به الأهواء والشهوات تراه ساعة يمسك القلم قد تجرد وتحول إلى راهب متبتل راعش القلب ساجد الفؤاد ،، ولا غرابة في ذلك فمدد الدين والفن من عين واحدة ،هي العين التي تنورت بها كل المظاهر وهي العين التي اخضرت بها الصحارى وازدهرت الحياة وأضاءت النجوم وابتسم الوليد وغرد الكروان ،، الفنان ورجل الدين كلاهما يأخذان من يد واحدة ،إنما يسقط الفنان حينما يتصور أنه يأتي بما يأتي به من عند نفسه ،، وتلك هي بداية الغواية ،، عزيزي القارئ لا زلنا على الهواء مباشرة مع المفكر الإسلامي العظيم الدكتور مصطفى محمود ، في محاولة لإحياء التراث الإسلامي الثر بكنوزه الدفينة المجيدة ، ولنا لقاء

هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]