هنادي محمد عبد المجيد

حتى الوردة تملك عقلا‏

حتى الوردة تملك عقلا‏
اسمعوا ،، هذه ليست نكتة : إن الوردة لها عقل ، وسنبلة القمح لها عقل ،، وشجرة البلوط لها عقل ، وإن كان عقلا “تخينا” مثل جذعها التخين ،، إن حركة زهرة عباد الشمس وهي تلوي عنقها لتتجه نحو الشمس لا تختلف كثيراً عن حركة النحلة وهي تطير محلِّقة إلى الحقل لتجمع العسل ،، ولا عن معركة الإنسان الواعية وهو يطير ليقتحم المخاطر مستهدفا رسالة سامية ،،إن بين الثلاثة ترابطا حيوياً، إن الثلاثة منظومة متصلة الحلقات الفرق بينها فارق في الدرجة فقط ،إن حركة عباد الشمس وحدها عقل فما هو العقل ؟ إنه قدرة تصرُّف وتكيُّف مع البيئة ،، إنه في كلمات قليلة بسيطة ،،القدرة على اتخاذ موقف انتقائي أكثر ملاءمة للحياة في كل لحظة ،، والزهرة حينما تلوي أوراقها نحو الضوء تتخذ موقفاً انتقائياً أكثر ملاءمة لحياتها ،، إنها تتحرك حركة عاقلة ،، ومعنى هذا أن العقل ليس شيئا جديداً في الإنسان ،إنه في الطبيعة الحية كلها ،، كل الفرق أن الإنسان لديه وسائل أكثر يتصرف بها ويحتال بها على بلوغ أهدافه ،،الإنسان بحكم كونه مخلوقاً معقدا ًيملك أجهزة متعددة كل منها على درجة فائقة من التخصص ،فهو يملك يدين فيهما عشرة أصابع ،ويملك لساناً ناطقا ً،ويملك عينين مبصرتين وأذنين حادتين ،وبشرة حساسة ،وأنفاً شماما ً،وكل هذه الأجهزة في خدمة عقله ،، الإنسان حيوان إقطاعي عنده عشرة آلاف فدان من المواهب وعمارات من الأعصاب والحواس المرهفة ،، وهو لهذا ظلم نفسه وظلم غيره من المخلوقات حينما اعتبر نفسه الوحيد العاقل بينها ،وهذه خرافة إقطاعية غير صحيحة ،العقل باطن كامن في كل الطبيعة الحية ،، ومنذ أن نبضت الحياة في الأميبا الحقيرة ذات الخلية الواحدة وحركة هذه الأميبا فيها كل الحذر والتلصص والخبث وسوء النية التي في الإنسان ،لا جديد في الإنسان ، وإنما هناك التكامل ،، والنفس ،، ما النفس ؟ ،، ما الغرائز ؟ إنها الحوافز البدائية التي كانت تحفز الحيوان ليسعى في حياته ومعاشه ،، الجوع الذي يحفزه إلى الطعام ،، والعطش الذي يحفزه إلى التلاقح والتكاثر ،، وهي نفس الحوافز التي نشأت منها الحوافز العصبية المتعددة في الإنسان ،، الطمع والخوف والجزع والغضب والكراهية والحب ،،وهي مثلها ،مجموعة إشعارات وإنذارات عصبية في حاجات البدن الملحة الضرورية ،، وعيب فرويد أنه وقف عند هذه الإشعارات والغرائز والحوافز واعتبرها مفتاح شخصية الإنسان ومفتاح سر الحياة ولغزها ،ولكن الحقيقة أنه لا الغرائز النفسية ،ولا حتى المنطق العقلي يمكن أن يصلح مفتاحا لسر الحياة ،، الحياة لا يمكن تفسيرها بأنها رد فعل غريزي لطلب الطعام والجنس ولا يمكن تفسيرها بأنها رد فعل تصرف منطقي للتكيف بالظروف ،، هذه صفات في الطبيعة الحية ولكنها ليست مفتاحاً لسرها ،، الحياة ليست محفوزة من الخلف وليست منخوسة من ورائها بمنخس الغرائز ،، وإنما هي واثبة متطلعة إلى الأمام بفطرة إرشادية عالية وبعاطفة مبثوثة في خلاياها وأعصابها وقلبها وو الحياة ليست مدفوعة من الماضي ،،ولكنها مرتمية في المستقبل بفطرة توجيهية باطنة فيها ،، الحياة ليست مقهورة بقضاء محتوم يدفعها من خلفها ، وإنما هي رشيدة مختارة بصيرة تنتقي لنفسها على الدوام ،ناشدة هدفا في الغد ،، إن فيها مثيرات باطنة ترتفع بها فوق نفسها ،، إنها تتحرك بكامل صحتها وشبعها طالبة مستوى فوق مستوى حياتها الروتيني المتكرر المتشابه ،، إن حب الجمال والخير والحق هو في النهاية أحد المثيرات والمغريات المتأصلة في الصميم الحي ،، وليس هناك فارق كبير بين قدرة شكسبير على إفراز الأشعار ، وقدرة المحار علي إفراز اللآلئ،، وقدرة خلايا الفرَاش على رسم الزخارف البديعة الجميلة على واجهة أجنحته ،، إن الفراش لم يكن بحاجة حيوية ملحة إلى رسم هذه الزخارف،،، فالأجنحة كان بإستطاعتها أن تقوم بوظيفتها بكفاية ومهارة دون أن تكون منقوشة ، فما السر في نقشها ؟ ،، إذا قلنا أنها مثيرات جنسية وإن الأنثى تتجمل للذكر ،فإن السؤال يظل مطروحا ،، ولماذا يختار الذكر الأنثى الأجمل ،، إن الجمال سيظل يفرض نفسه كهدف ،، والسر هو نفس السر الذي جعل شكسبير يتغنى بالشعر،، إنه ليس أكل العيش وإنما هي مثيرات الجمال، ومغريات الإبداع في طبيعة شكسبير ،، وفي طبيعة الفراش ،، وفي الطبيعة الحية كلها .
في جرثومة الخلية الأولى بذرة كل هذه الأسرار الجمالية ،، الخلية التي بدأت حياتها بنشدان درجة معينة من الحرارة والجو والغذاء ملائمة لإنتعاشها وتكاثرها كانت تضمر في جوفها غايات أبعد وهي ما لبثت بعد أن ملكت ناصية حياتها في عقل الإنسان إن أفصحت عن هذه الغايات البعيدة ،فبدأت تنشد الجمال والحق والخير والعدل والسلام .
إن المثل العليا تحت الجلد ،والقيم الرفيعة في نسيج البروتوبلازم ،، وتفسير الإنسان على أنه جسم فقط ، أو نفس فقط ، أو عقل فقط خال من مثيرات الروح والوجدان ، تفسير ناقص يهبط بالإنسان إلى مستوى عداد منطقي وآلة حاسبة رياضية ويسلب الوجود الإنساني نكهته وطعمه وحرارته ،، إن زهرة عباد الشمس تتطلع إلى الشمس ،، ونبات الصبار ،تخرج تصانيف جميلة كأنها منحوتة بيد نحات فنان عاكف على ابتكار أفانين الجمال ،،والنحلة تبني بيتها في معمار هندسي بديع ،، الطبيعة الحية ليست طبيعة جائعة جنسية ولكنها أيضا طبيعة متفننة عاقلة متطلعة حالمة ،، والمثل العليا والأهداف والأحلام والمأمولات الراقية الرفيعة ليست أشياء انفرد بها الإنسان ،، إنها في الصميم الحي كله ،،إن غرورنا فقط كحيوانات إقطاعية امتلكت أوسع الثروات من الأجهزة والحواس ،، هو الذي صور لنا هذه الخرافة ،، ونحن من فيضان هذه الثروة علينا بدأنا نفيض بقدر على البيئة حولنا ،، ونبث فيها نظامنا وقانوننا ونخلق منظومات وأنماط جديدة ،فنبني البيوت والأبراج والمدن والمصانع ، ونبتكر عمارات من الشعر والنغم والألوان ،ونخترع شرائع وقوانين ودساتير ونظما ونسينا في غمرة هذا الطوفان من الثراء ،أن كل هذه النعمة هي التركة التي انحدرت إلينا من أجدادنا الحيوانات ،وأنها قبل أن تصل إلى رأسنا كانت في رأس النملة، وكانت في لحاء الشجرة، وكانت في لباب الإسفنج وفي عصير الصبار المر ،،، وهذا يعني أن معجزة الحياة ليست في مخلوق بعينه ،ولكنها في النسيج الحي نفسه ،أينما كان هذا النسيج نباتا أو حيوانا أو إنسانا أو خلية تدب في مستنقع ببطء وعماء دون أن ترى ودون أن تسمع، في البروتوبلازمة،، في هذه الجيلاتينية الهلامية كأنها ألماظية مرشوشة بالفستق والسمسم ،، والذين شاهدوا البروتوبلازمة تحت الميكروسكوب يعرفون أنها تتحرك وأن حبات السمسم والفستق فيها تدور وتدور وتدور حول بندقة صلبة في وسطها هي النواة، وأنها أحيانا لها جدار يحفظها ،وأحيانا لا يكون لها جدار ،وإنما تكون بضعة هلامية سائبة رخوة تتلوى كبقعة زيت سميكة في الماء “،،، كانت تلك تأملات عالم ملأ الوجدان بعقليته الفذة ، الدكتور مصطفى محمود من كتابه (لغز الموت) ، لنا لقاءات أخرى مع مقالاته الغنية بالمعرفة .

هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]