هنادي محمد عبد المجيد

رحلتي من الشك إلى الإيمان (1)‏

رحلتي من الشك إلى الإيمان (1)‏
كان ذلك من زمن بعيد لست أذكره ،، ربما كنت أدرج من الثالثة عشرة إلى الرابعة عشرة وربما قبل ذلك ،في مطالع المراهقة ،حينما بدأت أتساءل في تمرد : تقولون إن الله خلق الدنيا لأنه لا بد لكل مخلوق من خالق ولا بد لكل صنعة من صانع ولا بد لكل موجود من مُوجد ،،صدَّقنا وآمنا ،، فلتقولوا لي إذن من خلق الله ،، أم أنه جاء بذاته ،، فإذا كان قد جاء بذاته وصح في تصوركم أن يتم هذا الأمر ،فلماذا لا يصح في تصوركم أيضا أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق وينتهي الإشكال ؟ ،، كنت أقول هذا فتصفر من حولي الوجوه وتنطق الألسن فتمطرني باللعنات وتتسابق إلي اللكمات عن يمين وشمال ،، ويستغفر لي أصحاب القلوب التقية ويطلبون لي الهدى ،، ويتبرأ مني المتزمتون ويجتمع حولي المتمردون ، فنغرق معا في جدل لا ينتهي إلا ليبدأ ولا يبدأ إلا ليسترسل ،، وتغيب عني في تلك الأيام الحقيقة الأولى وراء ذلك الجدل ، إن زهوي بعقلي الذي بدأ يتفتح وإعجابي بموهبة الكلام ومقارعة الحجج التي انفردت بها ، كان هو الحافز دائما ،، وكان هو المشجع ،وكان هو الدافع ،وليس البحث عن الحقيقة و،لا كشف الصواب ،، لقد رفضت عبادة الله لأني استغرقت في عبادة نفسي ، وأعجبت بومضة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي وبداية الصحوة من مهد الطفولة ،، كانت هذه هي الحالة النفسية وراء المشهد الجدلي الذي يتكرر كل يوم ،، وغابت عني أيضا أصول المنطق وأنا أعالج المنطق ولم أدرك أني أتناقض مع نفسي إذ أعترف بالخالق ثم أقول ومن خلق الخالق فأجعل منه مخلوقا في الوقت الذي أسميه فيه خالقا وهي السفسطة بعينها ،، ثم إن القول بسبب أول للوجود يقتضي أن يكون هذا السبب واجب الوجود في ذاته وليس معتمدا ولا محتاجا لغيره لكي يوجد ،، أما أن يكون السبب في حاجة إلى سبب فإن هذا ما يجعله واحدة من حلقات السببية ولا يجعل منه سببا أول ،، هذه هي أبعاد القضية الفلسفية التي إنتهت بأرسطو إلى القول بالسبب الأول والمحرك الأول للوجود ،، ولم تكن هذه الأبعاد واضحة في ذهني في ذلك الحين ،، ولم أكن قد عرفت بعد من هو أرسطو ولا ماهي القوانين الأولى للمنطق والجدل ،، واحتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل والحوار مع النفس وإعادة النظر ثم إعادة النظر ،، ثم تقليب الفكر على كل وجه لأقطع الطريق الشائكة من الله والإنسان إلى لغز الحياة إلى لغز الموت إلى ما أكتب اليوم من كلمات على درب اليقين ،،، لم يكن الأمر سهلا ، لأني لم أشأ أن آخذ الأمر مأخذا سهلا ،،، ولو أني أصغيت إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودني لأعفيت نفسي من عناء الجدل ،، ولقادتني الفطرة إلى الله ، ولكني جئت في زمن تعقد فيه كل شيء وضعف صوت الفطرة حتى صار همسا وارتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغرورا واعتدادا ،، والعقل معذور في اسرافه إذ يرى نفسه واقفا على هرم هائل من المنجزات ، وإذ يرى نفسه مانحا للحضارة بما فيها من صناعة وكهرباء وصواريخ وطائرات وغواصات وإذ يرى نفسه اقتحم البر والبحر والجو والماء وما تحت الماء ،، فتصور نفسه القادر على كل شيء وزج بنفسه في كل شيء وأقام نفسه حكما على ما يعلم وما لا يعلم ،،
وغرقت في مكتبة البلدية بطنطا وأنا صبي أقرأ لشبلي شميل وسلامة موسي وأتعرف على فرويد ودارون ،، وشغفت بالكيميا والطبيعة والبيولوجيا ،، وكان لي معمل صغير في غرفتي أحضر فيه غاز ثاني أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت وأقتل الصراصير بالكلور وأشرح فيه الضفادع ،، وكانت الصيحة التي غمرت العالم هي العلم ،، العلم ،، العلم ، ولا شيء غير العلم .
النظرة الموضوعية هي الطريق ،، لنرفض الغيبيات ولنكف عن إطلاق البخور وترديد الخرافات ،، من يعطينا دبابات وطائرات ويأخذ منا الأديان والعبادات ؟ ،كان ما يصلنا من أنباء العلم الغربي باهرا يخطف أبصارنا وكنا نأخذ عن الغرب كل شيء ،، الكتب والدواء والملابس والمنسوجات والقاطرات والسيارات حتى الأطعمة المعلبة حتى قلم الرصاص والدبوس والإبرة حتى نظم التعليم وقوالب التأليف الأدبي من قصة ومسرحية ورواية حتى ورق الصحف ،، وحول أبطال الغرب وعبقرياته كنا ننسج أحلامنا ومثلنا العليا حول باستير وماركوني ورونتجن وأديسون ،، وحول نابليون وابراهام لنكولن ،، وكرستوفر كولومبس وماجلان ،، كان الغرب هو التقدم ،وكان الشرق العربي هو التخلف والضعف والتخاذل والإنهيار تحت أقدام الإستعمار وكان طبيعيا أن نتصور أن كل ما يأتينا من الغرب هو النور والحق ، وهو السبيل إلى القوة والخلاص ،، ودخلت كلية الطب لأتلقى العلوم باللغة الإنجليزية وأدرس التشريح في مراجع إنجليزية وأتكلم مع أساتذتي في المستشفى باللغة الإنجليزية ،، ليس لأن انجلترا كانت تحتل القناة ، كلن لسبب آخر مشروع وعادل ، هو أن علم الطب الحديث كان صناعة غربية تماما ،وما بدأه العرب في هذه العلوم أيام ابن سينا ،كان مجرد أوليات لا تفي بحاجات العصر ،، وقد التقط علماء الغرب الخيط من حيث انتهى ابن سينا والباحثون العرب ثم استأنفوا الطريق بإمكانيات متطورة ومعامل ومختبرات وملايين الجنيهات المرصودة للبحث ،فسبقوا الأولين من العرب والفرس والعجم ،وأقاموا صرح علم الطب الحديث والفسيولوجيا والتشريح والباثولوجيا وأصبحوا بحق مرجعا ،، وتعلمت مع ما تعلمت في كتب الطب ،النظرة العلمية ، وأنه لا يصح إقامة حكم بدون حيثيات من الواقع وشواهد من الحس ،وأن العلم يبدأ من المحسوس والمنظور والملموس وأن العلم ذاته هو عملية جمع شواهد واستخراج قوانين ،، وما لا يقع تحت الحس فهو في النظرة العلمية غير موجود ، وأن الغيب لا حساب له في الحكم العلمي ،، بهذا العقل العلمي المادي البحت بدأت رحلتي في عالم العقيدة ، وبالرغم من هذه الأرضية المادية وهذا الإنطلاق من المحسوسات الذي ينكر كل ماهو غيب فإني لم أستطع أن أنفي أو استبعد القوة الإلاهية ،، كان العلم يقدم إلى صورة عن الكون بالغة الإحكام والإنضباط ، كل شيء من ورقة الشجر إلى جناح الفراش إلى ذرة الرمل فيها تناسق ونظام وجمال ،، الكون كله مبني وفق هندسة وقوانين دقيقة ،، وكل شيء يتحرك بحساب من الذرة المتناهية في الصغر إلى الفلك العظيم إلى الشمس وكواكبها إلى المجرة الهائلة التي تحوي أكثر من ألف مليون شمس ،إلى السماء المترامية التي يقول لنا الفلك إن فيها أكثر من ألف مليون مجرة كل هذا الوجود اللامتناهي من أصغر إلكترون إلى أعظم جرم سماوي كنت أراه بمعزوفة متناسقة الأنغام مضبوطة التوزيع كل حركة فيها بمقدار ،أشبه بالبدن المتكامل الذي فيه روح ،، كان العلم يمدني بوسيلة أتصور بها الله بطريقة مادية ”

هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]