هنادي محمد عبد المجيد

رحلتي من الشك إلى الإيمان (2)‏

رحلتي من الشك إلى الإيمان (2)‏
كان العلم يمدني بوسيلة أتصور بها الله بطريقة مادية ،، وفي هذه المرحلة تصورت أن الله هو الطاقة الباطنة في الكون التي تنظمه في منظومات جميلة من أحياء وجمادات وأراض وسماوات ،، هو الحركة التي كشفها العلم في الذرة وفي البروتوبلازم وفي الأفلاك ،، هو الحيوية الخالقة الباطنة في كل شيء ،، أو بعبارة القديس توماس “الفعل الخالص الذي ظل يتحول في الميكروب حتى أصبح إنسانا وما زال يتحول ،وسيظل يتحول إلي ما لا نهاية “،، والوجود كان في تصوري لا محدودا لا نهائياً ،، إذا لا يمكن أن يحد الوجود إلا العدم ،، والعدم معدوم ،ومن هنا يلزم منطقيا أن يكون الوجود غير محدود ولا نهائي ،، ولا يصح أن نسأل ،من الذي خلق الكون ،، إذ أن السؤال يستتبع أن الكون كان معدوما في البداية ثم وُجد ،، وكيف يكون لمعدوم كيان ،، إن العدم معدوم في الزمان والمكان وساقط في حساب الكلام ولا يصح القول بأنه كان ،، وبهذا جعلت من الوجود حدثا قديماً أبدياً أزلياً ممتداً في الزمان لا حدود له ولا نهاية ،، وأصبح الله في هذه النظرة هو الكل ونحن تجلياته ،، الله هو الوجود،، والعدم قبله معدوم ،، هو الوجود المادي الممتد أزلا وأبداً بلا بدء وبلا نهاية،،و هكذا أقمت لنفسي نظرية تكتفي بالموجود ،وترى أن الله هو الوجود ،دون حاجة إلى افتراض الغيب والمغيبات ،ودون حاجة إلى التماس اللامنظور ،، وبذلك وقعت في أسر فكرة وحدة الوجود الهندية وفلسفة سبينوزا ،، وفكرة برجسون عن الطاقة الباطنة الخلاقة وكلها فلسفات ،،تبدأ من الأرض ، من الحواس الخمس ،ولا تعترف بالمغيبات ،ووحدة الوجود الهندية تمضي إلى أكثر من ذلك فتلغي الثنائية بين المخلوق والخالق ،، فكل المخلوقات في نظرها هي عين الخالق ،، عشت سنوات في هذا الضباب الهندي وهذه الماريجوانا الصوفية ،ومارست اليوجا وقرأتها في أصولها وتلقيت تعاليمها على أيدي أساتذة هنود،، وسيطرة علي فكرة التناسخ مدة طويلة ،وظهرت في روايات لي مثل العنكبوت والخروج من التابوت ،، ثم بدأت أفيق على حالة من عدم الرضا وعدم الإقتناع واعترفت بيني وبين نفسي أن هذه الفكرة عن الله فيها الكثير من الخلط ،، ومرة أخرى كان العلم هو دليلي ومنقذي ومرشدي ،، عكوفي على العلم وعلى الشريحة الحية تحت الميكروسكوب قال لي شيئا آخر ،،
وحدة الوجود الهندية كانت عبارة شعرية صوفية ،ولكنهاغير صادقة ،، والحقيقة المؤكدة التي يقولها العلم أن هناك وحدة في الخامة لا أكثر ،،وحدة في النسيج والسنن الأولية والقوانين ،، وحدة في المادة الأولية التي بنى منها كل شيء ،فكل الحياة من نبات وحيوان وإنسان بنيت من تواليف الكربون مع الأيدروجين والأكسجين ،، ولهذا تتحول كلها إلى فحم بالإحتراق، وكل صنوف الحياة تقوم على الخلية الواحدة ومضاعفاتها ،، ومرة أخرى نتعلم من الفلك والكيمياء والعلوم النووية أن الكربون ذاته وكذلك جميع العناصر المختلفة جاءت من طبخ عنصر واحد في باطن الأفران النجمية الهائلة هو الأيدروجين الذي يتحول في باطن الأفران النجمية إلى هليوم وكربون وسيليكون وكوبالت ونيكل وحديد إلى آخر قائمة العناصر وذلك بتفكيكه وإعادة تركيبه في درجات حرارة وضغوط هائلة ، وهذا يرد جميع صنوف الموجودات إلى خامة واحدة إلى فتلة واحدة حريرية غزل منها الكون في تفصيلات وتصميمات وطرز مختلفة ،، والخلاف بين صنف وصنف وبين مخلوق ومخلوق هو خلاف في العلاقات الكيفية والكمِّية ،، في المعادلة والشفرة التكوينية لكن الخامة واحدة ،، وهذا سر الشعور بالنسب والقرابة والمصاهرة وصلة الرحم بين الإنسان والحيوان وبين الوحش ومروضه وبين الأنف التي تشم والزهرة العاطرة وبين العين ومنظر الغروب الجميل ،، هذا هو سر الهارموني والإنسجام ،، إن كل الوجود أفراد أسرة واحدة من أب واحد ،، وهو أمر لا يستتبع أبدا أن نقول إن الله هو الوجود ،وأن الخالق هو المخلوق فهذا خلط صوفي غير وارد ،، والأمر شبيه بحالة الناقد الذواقة الذي دخل معرضا للرسم فاكتشف وحدة فنية بين جميع اللوحات ،، واكتشف أنها جميعا مرسومة على الخامة نفسها ،وبذات المجموعة الواحدة من الألوان وأكثر من هذا أن أسلوب الرسم واحد ،والنتيجة الطبيعية أن يقفز إلى ذهن الناقد أن خالق جميع هذه اللوحات واحد ،وأن الرسام هو بيكاسو أوشاجال أو موديلياني مثلا ،، فالوحدة بين الموجودات تعني وحدة خالقها ،،ولكنها لا تعني أبدا أن هذه الموجودات هي ذاتها الخالق ،، ولا يقول الناقد أبدا أن هذه الرسوم هي الرسام ،، إن وحدة الوجود الهندية شطحة صوفية خرافية ، وهي تبسيط وجداني لا يصادق عليه العلم ولا يرتاح إليه العقل ،، وإنما تقول النظرة العلمية المتأملة لظواهر الخلق والمخلوقات إن هناك وحدة بينها ،وحدة أسلوب ووحدة قوانين ووحدة خامات تعني جميعها أن خالقها واحد لم يشرك معه شريكا يسمح بأسلوب غير أسلوبه ،، وتقول لنا أيضا إن هذا الخالق هو عقل كلي شامل ومحيط يلهم مخلوقاته ويهديها في رحلة تطورها ويسلحها بوسائل البقاء ،فهويخلق لبذور الأشجار الصحراوية أجنحة لتستطيع أن تعبر الصحارى الجرداء بحثا عن ماء وعن ظروف إنبات مواتية ،، وهو يزود بيضة البعوضة بكيسين للطفو على الماء لحظة وضعها ولا تغرق ،، وما كان من الممكن للبعوضة أن تدرك قوانين أرشميدس للطفو فتصنع لبيضها تلك الأكياس ،،وإنما هو العقل الكلي الشامل المحيط الذي خلق ،، هو الذي يزود كل مخلوق بأسباب حياته ،وهو خالق متعال على مخلوقاته ، يعلم مالا تعلم ويقدر على ما لا تقدر ويرى ما لا ترى ،، فهو واحد أحد قادر عالم محيط سميع بصير خبير ،، وهو متعال يعطي الصفات ولا تحيط به صفات ،، والصلة دائما معقودة بين هذا الخالق ومخلوقاته فهو أقرب إليهامن دمها الذي يجري فيها ،، وهو المبدع الذي عزف بإبداع هذه المعزوفة الكونية الرائعة ،،وهو العادل الذي أحكم قوانينها وأقامها على نواميس دقيقة لا تخطئ ،وهكذا قدم لي العلم الفكرة الإسلامية الكاملة عن الله ،،
أما القول بأزلية الوجود لأن العدم معدوم والوجود موجود فهو جدل لفظي لا يقوم إلا على اللعب بالألفاظ ،، وقيام العدم في التصور والفكر ينفي كونه معدوما ،،والعدم هو على الأكثر نفي لما نعلم ولكنه ليس نفيا مطلقا مساويا للمحو المطلق ،وفكرة العدم المطلق فرضية مثل فرضية الصفر الرياضي ،،ولا يصح الخلط بين الإفتراض والواقع ،ولا يصح تحميل الواقع فرضا نظريا ،فنقول اعتسافا إن العدم معدوم ، ونعتبر أن هذا الكلام قضية وجودية نبني عليها أحكاما في الواقع ،هذا تناقض صريح وسفسطة جدلية ،، وبالمثل القول بأن الوجود موجود ،هنا نجد نفس الخلط فالوجود تجريد ذهني والموجود واقع حسي ،، وكلمة العدم وكلمة الوجود تجريدات ذهنية كالصفر ،واللانهاية لا يصح أن نخلط بينها وبين الواقع الملموس المتعيَّن ،والكون الكائن المحدد أمام الحواس ،، الكون إذن ليس أزليا ً،، وإنما هو كون مخلوق كان لا بد له بدء بدليل آخرمن قاموس العلم هو ما نعرفه باسم القانون الثاني للديناميكا الحرارية ،، ويقرر هذا القانون أن الحرارة تنتقل من الساخن إلى البارد من الحرارة الأعلى إلى الحرارة الأدنى حتى يتعادل المستويان فيتوقف التبادل الحراري ،، ولو كان الكون أبديا أزليا بدون ابتداء لكان التبادل الحراري قد توقف في تلك الآباد الطويلة المتاحة وبالتالي لتوقفت كل صور الحياة ولبردت النجوم وصارت بدرجة حرارة الصقيع والخواء حولها وانتهى كل شيء ،،إن هذا القانون هو ذاته دليل على أن الكون له بدء ،، والقيامة الصغرى التي نراها حولنا في موت الحضارات وموت الأفراد وموت النجوم وموت الحيوان والنبات وتناهي اللحظات والحقب والدهور هي لمحة أخرى تدلنا على القيامة الكبرى التي لا بد أن يتنهي إليها الكون ،، إن العلم الحق لم يكن أبدا مناقضا للدين بل إنه دال عليه مؤكد لمعناه ،، وإنما نصف العلم بأنه هو الذي يوقع العقل في الشبهة والشك وبخاصة إذا كان ذلك العقل مزهواً بنفسه معتدا بعقلانيته ،،وبخاصة إذا دارت المعركة في عصر يتصور فيه العقل أنه كل شيء وإن حاصرت الإنسان شواهد حضارة مادية صارخة تزأر فيها الطائرات وسفن الفضاء والأقمار الصناعية ،هاتفة كل لحظة ،، أنا المادة ،أنا كل شيء .”
، تلك كانت خلاصة رحلة المفكر العالم الدكتور مصطفى محمود كما أَحَبَّ أن يصفها هو فقال 🙁 رحلتي من الشك إلى الإيمان)ونحن نقول أنه قدَّم لنا رُؤْية عصرية جداً لما كان يطلق عليه في القديم إسم ( علم الكلام) ألا وهو علم التوحيد .

هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]