نمل ونحل
النملة تدَّخِرُ القوت لفصل الشتاء ، وهي إذ تخزِن القوت الذي جمعته ، تتركه كما وجدته ، فحبة القمح تظل حبة قمح وقطعة السكر تبقى قطعة سكر ، فكل ما على النملة أن تؤديه في هذا السبيل ،هو أن تجمع ما تصادفه صالحا لطعامها ، وترصه في بيتها رصاً على مستوى الأرض ، أو تكومه فوق بعض ،، وقد شهدت في صباي شيئا عجيباً وكان ذلك في أعقاب مطر غزير ،إذ شهدت جماعة من النمل تُخرج مخزونها من جُحرها ، وتنشره متفرقاً تحت أشعة الشمس ، ولا بد أن تكون قد وجدته مبللاً بما تسرب إليه من ماء المطر ،وليس مخزون النمل دائما جزيئات صغيرة من مختلف المواد التي تراها صالحة ، بل قد يحدث أن تقع على صيد جسيم فتبقيه على جسامته ، وتحفر له مخزناً خاصاً يسعه بكل حجمه ، وراقبتُ ذلك بنفسي ذات يوم ، رأيت في الحديقة أمامي نملة كبيرة تناور صرصاراً ، وتداوره ثم تلدغه في أم رأسه لدغة رأيته يجمُد بعدها فبعُدَتْ النملة عنه مسافة قصيرة ،حيث أخذت تحفر جحراً ،وبسرعة ًالبرق تم لها ما أرادت ،فعادت إلى فريستها ،وجرته إلى حيث الجحر ، واعجباه ! ! كيف أخذت تقيس الصرصار طولاً وارتفاعا بخطوات سريعة أخذت تخطوها بجانبه ،ومتسلقة على جسده ،ثم تدخل الجُحر بعد ذلك وحدها ،ولعلَّها وجدت الجحر أصغر من أن يسع الفريسة ، فراحت توسعه بحفر جديد ،وأعادت عملية القياس ،فلما اطمأنت ،شدت صيدها حتى أدخلته في محبسه ،وردمت من تراب الحفر حتى أغلقت فتحة الدخول ، وذهبت إلى حال سبيلها ،، ذلك هو النمل وما يصنعه في تخزين قوته ، فهو ماهر كل المهارة في جمعِه لكنه لا يغيِّر شيئاً ، وأما النحل فأمره آخر ، لأنه ما إن يمتص من الزهور رحيقها ،حتى يدير لها معامِلَه الداخلية ، فتخرجه في الخلية عسلاً ،، وعلى طريقة النمل ،وطريقة النحل يكون الإنسان في جمع معارفه وعلومه : فتارة يصنع صنيع النمل ، وطورا يُجري عليها طريقة النحل ، وبين الطريقتين تختلف الشعوب ، وكذلك تختلف العصور فشعب ما أو عصر ما قد تسوده عملية الجمع والتخزين ، حتى إذا ما أراد أحد أن ينتفع بشيء من المعرفة المخزونة في حياته العملية أخرج من المخازن ما يريد ؛ ليستخدمه كما كان قد تلقاه وحفظه ، لكننا في الوقت نفسه قد نجد شعباً آخر ،وعصراً آخر لا يستريح إلا إذا تحولت المواد المجموعة على يديه خلقا جديداً ، وبمثل هذا الإبداع يتقدم الإنسان ، ولعلك تلحظ عملية الجمع مشتركة في الحالتين ، لكن بينما يوقف عندها في الحالة الأولى ،يتخطاها المبدع إلى مرحلة تُبنى عليها في الحالة الثانية فالنمل والنحل كلاهما يجمع مواده ،فأما النمل فيخزن ما تجمَّع كما هو ،أما النحل فيصير مما جمعه شيئا جديدا ،، تعالوا نستعرض معاً مسرعين أمثلة من أقوى النهضات الثقافية التي شهدت التاريخ لنرى على أي منهج سارت فأبدعت ،وسنرى أنها جميعاً قد تشابهت في مراحل السير : فخطوة نملية تجمع بها ما قد وصل إلى الدنيا من أمهات الحقائق ،، تتلوها خطوة نحلية ،يمتص فيها أصحاب المواهب رحيق المعارف المجموعة ، لا ليخزنوها في ذاكرتهم لتبقى على صورتها ،بل ليحولوها في معامل المواهب ابداعاً جديداً ،أما في مراحل الإنطفاء والركود ،فإن الدارسين يحفظون عن ظهر قلب ما يتلقونه من مأثورات الأولين ليخرجوها في المناسبات المختلفة “تسميعا” فتخرج وكأنها مومياوات محنطة خرجت من توابيتها لتوضع في المتاحف ،ولنجعل مثلنا الأول ذلك المد الثقافي الزاخر في تاريخ المسلمين ، فلم يكد يمضي على ظهور الإسلام ما يزيد قليلا على قرن واحد ،اشتغل فيه العلماء باللغة وما يتصل بها من قواعد وشواهد حتى بدأت حركة الجمع من مصادر الآخرين ،وأعني حركة الترجمة عن اليونانية والفارسية والهندية ،ولقد سارت تلك الحركة على مرحلتين : كان المترجمون في المرحلة الأولى منهما يعملون فرادى كل بحسب مزاجه ،ودون أن يكون للدولة شأن بهم ،وأما في المرحلة الثانية ،فقد كان للدولة شأن عظيم ،إذ أنشأ المأمون ما يُسمى ببيت الحكمة ،حيث يجتمع القائمون على الترجمة تحت رعاية الخليفة ،وكانت حصيلة ذلك كله أن أصبح بين أيدي الدارسين ترجمات لمعظم مؤلفات أرسطو وما كتبه الشارحون للإفلاطونية المحدثة وبعض محاورات أفلاطون ومعظم مؤلفات جالينوس ،وأجزاء مما كتبه غير جالينوس في الطب ، فضلاً عن المؤلفات في ميادين العلوم ،ومنها كتاب إقليدس وكتاب أرشميدس ، فما ان بلغ القرن التاسع ( الثالث الهجري) نهايته إلا وقد شهدت العربية محصولا طيباً مما أنتجه السابقون في ثقافات أخرى ،ولك أن تتخيل نفسك وقد دخلت بيت الحكمة في بغداد ،لترى جماعة المترجمين مُنكبَّة على صحائفها ،تنقل من لغة أخرى إلى اللغة العربية ،وبين هؤلاء ثلاثة من أسرة واحدة هم أبو يزيد حنين بن اسحاق وابنه إسحاق وابن أخته حنين ،فهل يسعك وأنت ترى هؤلاء يترجمون ما يترجمونه ،إلا أن تدرك من فورك إنما تشهد شيئا يشبه جهود النمل في الجمع والتخزين ،وأن تلك المادة المنقولة إلى العربية لن تكون هي الثقافة العربية ولكن الذي سيجعلها كذلك رجال آخرون ،يتلقون تلك المترجمات ليرشفوا رحيقها ،ثم ليُخرجوا ما قد رشفوه خلقا جديدا ،هو الذي نشير إليه اليوم،إذا ما تحدثنا عن التراث العربي وهو في عزه وذروة مجده ،، وانتقل من التاريخ العربي إلى القرن العاشر ( الرابع الهجري) وخذ ما اتفق ليديك أن تصلا إليه في خزانة الكتب التي عاش أصحابها في ذلك العهد ،ثم انظر إلى محتواها ،لترى كيف تحولت الأزهار إلى عسل ،فاقرأ -مثلا- لأبي حيان التوحيدي ، تجدك أمام فكر عربي جديد ،فلا هو شبيه بما قد كان عند أسلافه العرب من فكر ،ولا هو يشبه كل الشبه ما نقل إلى العربية من مؤلفات اليونان ،وليس ذلك المذاق الجديد مقصورا على رجل أو رجلين بل هو طابع شامل لعصر كامل امتد حقبة طويلة من الزمان في المشرق العربي ،وفي المغرب العربي على السواء ،وفي تلك الحقبة الطويلة لمعت أسماء كالنجوم الساطعة ،من فلاسفة كالفارابي وابن سينا ،وابن رشد، وشعراء الحكمة كأبي العلاء المعري ،ونقاد مثل : عبد القاهر الجرجاني ، وعلماء في الرياضة والفلك والكيمياء والطب وغير ذلك من شتى جوانب الفكر والأدب ،،وننتقل إلى المثل الثاني من النهضات الثقافية الزاهرة وهو مثل أوروبا في نهضتها التي وُصفت بأنها ولادة جديدة ،فها هنا أيضا كانت المرحلة الأولى شبيهة بما يصنعه النمل بطعامه المُدَّخر ،جمعاً وتخزيناً ،حتى يحين له الحين ،فما انفكت أوروبا في أواخر عصورها الوسطى تجمع بين أهم ما أنتجه العقل البشري ،،في ثقافة اليونان وثقافة الرومان وثقافة العرب ،وترجم هذا كله ،وأخذت دائرة انتشاره تتسع حتى بات في متناول الدارسين في الأديرة والجامعات ،وتحت أيدي رجال الفن والأدب، ثم جاء دور النحل والعسل ،فإذا الدنيا أمام روح جديد وعقل جديد ،ولم تكن تلك الجِدة مقصورة على علماء من أمثال جاليليو وكوبرنيق ،ولا على رجال فن أمثال رُفائيل ومايكل أنجلو وليوناردو دافنشي ، ولا على أدباء وشعرا مثل شكسبير ، بل الجِدة شملت روح الحياة نفسها ،وسادت في الناس فرحة غريبة كفرحة الطفل بكل شيء جديد ،انطلق الرحالة يجوبون البحار المجهولة والأرض البعيدة ويصعدون الجبال بعد أن لم تكن تلك الجبال قبل ذلك إلا مصدراً للخوف والتخويف ، دبَّتْ الحياة كلها روح المغامرة والبحث عما وراء الأستار ،وما اختفى في الظلمات فكان من كل ذلك أن دخل العالم عصره الجديد : علماً واكتشافاً وأدباً وفناً واهتماماً بالإنسان الذي هو بشر تقله الأرض وتظله السماء ،لا بالإنسان من حيث هو زاهد يكفيه القليل ،،وهذا الموضوع من سياق الحديث ،هو موضع ملائم لذكر “سير فانتيز” ورائعته الكبرى (دونكيشوت) فوقفة منا عند هذا الكتاب ضرورية لنا ضرورة المُنبِّهات القوية إذا ما أخذت الإنسان سِنة من نوم وهو بحاجة إلى يقظة واعية ،فليس كل شيء في ( دونكيخوت)أنه يحارب طواحين الهواء ظناً أنها فرسان معادية ،وأن يهاجم قطعان الخراف على أنها جيوش الأعداء مداهمة ومهاجمة لا بل هنالك ماهو أعمق أثراً فيمن يحيا ركوداً ثقافياً كالذي نحياه نحن اليوم ،، فذلك الرجل (دون كيخوت) قرأ كتب السلف عن حياة الفرسان ،وحفظ ما قد قرأ ،لم يُغيِّر منه شيئا ،ولم يضف إليه شيئا ،ثم رسم حياته على نموذجه ،فهو بمثابة نملة كبيرة وقعت على صيد كبير فخزنته لتجعله وليمتها ذات يوم شتاء ،كالنملة التي حدثتك عما رأيته منها ،، حين جمدت صرصارا ضخما بالنسبة إلى حجمها ، وحفرت له وخزنته ولو كان ( دون كيشوت) فعل ذلك في عصر سابق لعصره ،أيام كانت حياة الفرسان أمرا شائعاً مألوفا بل وكانت موضع تبجيل واحترام لما كان في أمره ما يلفت النظر ،إذن ماذا يلفت النظر في فارس يعيش في عصر الفرسان ؟ لكن عصر الفرسان قد ذهب وولى وتأهبت الدنيا للدخول في عصر جديد هو عصر النهضة الأروبية التي أشرنا إليها ثم ظهر (دون كيشوت) لا ليتنفس مع الناس الهواء الجديد بل ليتنفس هواءاً مخزوناً بين صفحات كتب قرأها عن عصر قديم ،فإذا كان سائر الناس من لحم ودم فقد كان هو انساناً من كلمات محفوظة وكانت دماؤه من مداد المحابر ،وهل تظن أن ( دونكيخوت) كان أعجوبة بشرية ظهرت واختفت ؟ أمعِن النظر فيما حولك ومن حولك ،تجد من طرازه مئات يدبون على ظهر الأرض بأجساد من ورق ،ودماء من مداد ،وأدمغة مشحونة بكلمات السابقين ،لا لتكون مصدر إلهام جديد ،بل ليعيشوها كرةً أخرى كما لو لم تمض بيننا وبين أصحابها مئات السنين ،، فنحن بعد أن قضينا مائة وثمانين عاماً ، منذ انفتحت أبوابنا على أوروبا فبدأت بذلك الإنفتاح نهضتها الحديثة ،لو اثتثنينا قلة قليلة مما أنتجناه خلال تلك الفترة لوجدنا إنتاجناً أشبه شيء ببيوت النمل ،فهو إنتاج يمكن أن يلخص في هذه الصيغة ،قال أسلافنا كذا ،وقال الغرب عن أسلافه ومعاصريه كيت ،، فلا نزال حتى في الموسيقى والشعر ،اللذين لا يكونان شيئا إذا لم ينبثقا من صميم الموسيقى والشاعر ، وأقول : إننا حتى في هذا الميدان لا نزال بين رجلين : أحدهما يقول : هكذا يكون الفن كما عرفه أسلافنا ، والآخر يقول : بل هكذا يكون الفن كما عرفه الغرب ،، ولا أقول شيئا عن موقفنا في ميادين الفكر والعلم ،والنظم على اختلافها ،فواضح أننا في ذلك كله ننحصر في إطار الصيغة التي أشرتُ إليها وهي أن صوتا ينادي بما أخذ السلف فيرد عليه صوت آخر بما يسود الغرب ، ولم تتبلور لنا بعد وجهة ،، إنه لا بأس في أن نصغي بآذان مرهفة لما قاله أسلافنا ،وما قاله العرب من أسلافه إلى معاصريه بل هو أمر ضروري محتوم لمن أرادوا لنهضتهم أن تعتدل على ساقين ،ولكن البأس كل البأس هو في أن نقف من ذينك المصدرين موقف النمل في الجمع والتخزين وكفى ،، إذ يبقى بعد ذلك دور النحل في التمثيل والتحويل ليتاح لنا أن نقول : هذا كتابنا بيميننا ،وعلى أساسه يكون الحساب ، ولقد تحقق لنا هذا بالفعل في كثير من الإبداع الأدبي ،وفي قليل من الفن ، ولكنه لم يتحقق في الفكر بشتى جوانبه ،لا كثيرا ولا قليلا ،اللهم إلا قطرات لا تطفىء ظمأ العصفور ” عزيزي القارئ كُتِبَ هذا المقال في ثمانينيات القرن
المنصرم ، على يد كاتب نبيه مخضرم هو الدكتور[ زكي نجيب محمود ] أحد أساتذة الفلسفة ، الذين حصلوا على جائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة والتقديرية في الآداب ،، وأعتبِر مقاله هذا تحفة نادرة بين مقالات قليلة لبعض كبار كتاب العصر الحديث ،،
هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]