تحقيقات وتقارير

قرارات الرابع عشر من رمضان الجنوبية

[JUSTIFY]في إطار متابعاتنا للشأن في دولة جنوب السودان؛ ذكرنا يوم السبت الماضي ( إن سلفاكير يزمع إصدار مرسوم جمهوري يقيل فيه نائبه مشار والأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم، ويأتي ذلك على خلفية الخلافات التي احتدمت في الجنوب بعد إقالة وزير المالية ودينق ألور وإحالتهما للتحقيق بتهم الفساد، ثم إقالة تعبان دينق والي ولاية الوحدة..إذا صحت هذه الأخبار فإن الجنوب مقدم على خريف مليء بالأوحال والمستنقعات.) ثم تابعنا التعليق على الأحداث في دولة الجنوب يوم الثلاثاء الماضي حين بعث مشار رسالة إلى سلفاكير يهدده فيها بالتراجع عن قرار إقالة تعبان، وذكرنا في المتابعات ( قلنا قبل أيام أن الخريف في الجنوب سيكون مليئا بالأوحال والمستنقعات التي تغرق أهل الحكم هناك، واليوم تتداول وسائط الإعلام الرسالة التي بعث بها مشار نائب الرئيس هناك إلى رئيسه سلفاكير ويطالب فيها بعودة تعبان دينق إلى ولاية الوحدة، راهنا حفظ السلام في الجنوب بتراجع سلفاكير عن قراره وإعادة تعبان دينق إلى ولاية الوحدة.. مشار الذي أرغى وأزبد وهدد وتوعد بسبب إقالة تعبان لعله فعل ذلك لأن تعبان من ابناء النوير، وهذه الغضبة المضرية لم تؤثر عن مشار حينما تمت إحالة وزير المالية هناك ودينق ألور إلى المحاسبة، لعل المسألة هنا كانت دينكاوية ـ دينكاوية، اما ان يتجرأ سلفاكيرالدينكاوي على تعبان النويراوي فهذا ما لا يرضاه مشار النويراوي.. تابعوا معنا نذر الخريف الجنوبي.. فهذه الرعود والبروق فقط.)

وأمس الأربعاء أقدم سلفاكير ميارديت رئيس دولة جنوب السودان ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان على إصدار قرارات بالغة الخطورة على مستقبل الأوضاع في الدولة الوليدة؛ إذ أصدر مرسوما حل بموجبه الحكومة، وأعفي رياك مشار من منصبه، وأحال باقان أموم للتحقيق، وإذا كانت القرارات السابقة مجرد رعود وبروق بين يدي الخريف الجنوبي؛ فإن القرارات الأخيرة تعني عمليا بداية هطول الأمطار الثقيلة المصحوبة بالصواعق والحرائق.

وتأتي إقالة مشار وإعفاء الحكومة وإحالة باقان للتحقيق عشية زيارة وفد عسكري عال من الاتحاد الإفريقي للخرطوم للتأكد من شكاوي الخرطوم حول دعم جوبا للجبهة الثورية، وقبيل ايام من المهلة التي أمهلتها الخرطوم قبل إغلاق أنبوب النفط ومنع تصدير النفط الجنوبي عبر السودان، وسلفاكير رجل المخابرات السابق كانما يريد أن يرسل أكثر من رسالة لأكثر من جهة بهذه القرارات الخطيرة والجريئة، فهو يريد أن يطمئن الخرطوم إلى أنه أقدم على خطوة يقصي بها صقور الحركة الشعبية عن السلطة، وبالتالي قطع الطريق على الجبهة الثورية بإزاحة أهم داعميهم عن مراكز القرار في جوبا، وبالتالي على الخرطوم رد التحية بأحسن منها وعدم المضي قدما في إغلاق أنبوب انفط الجنوبي حتى لا يتواصل التأثير السلبي على الاقتصاد الجنوبي المنهار أصلا والذي يعتمد بنسبة كبيرة جدا على تصدير النفط. والمعروف أن الخرطوم قد عانت كثيرا من تنفذ كلا من مشار وباقان على الأوضاع في الجنوب، فالجميع يذكر أن باقان في آخر زياراته للخرطوم رغم الاحتفاء به، اقدم على خطوة غادرة بمجرد وصوله جوبا فاقتحمت قوات الحركة الشعبية حقل هجليج، مما أدى لتوقف المفاوضات بين السودان ودولة الجنوب حتى تم تحرير هجليج. أما مشار فعقب زيارته الأخيرة للخرطوم صرح قبل ايام ان جوبا لن تنتظر الخرطوم بشأن أبيي، وستقدم على الاستفتاء هناك دون مشورة الخرطوم، واهاب بمواطني أبيي من الدينكا العودة إلى أبيي تمهيدا للاستفتاء، وهو التصريح الذي أثار عاصفة من الغضب لدى المسيرية، ولعله ـ مع أسباب أخرى ـ عجّل بقرارات سلفاكير الأخيرة.

والرسالة الثانية التي يريد ان يوجهها سلفاكير قصد بها الداخل الجنوبي، ومفادها انه باعتباره رئيسا للدولة وزعيما للحركة الشعبية الحزب الحاكم هناك، فإن مقاليد الأمور لا زالت بيده، وان مشار صاحب السوابق في التمرد على قرنق أيام حرب الحركة الشعبية على الدولة لن يستطيع تكرار تمرده لأنه ببساطة يأتي في المرتبة الثانية بعد سلفاكير في ترتيب المناصب في الدولة والحركة، كما أن الحركة الشعبية قد جمعت السلاح من كل الفصائل وملكته لجيش الحركة فقط الذي أصبح الآن جيش الدولة، وبالتالي فإن مشار لا يملك قوة مسلحة يناهض بها سلفاكير فبقيت لدى مشار الورقة السياسية باعتباره نائب رئيس الدولة والحركة ويأتي إعفاؤه لينزع منه هذه الميزة أيضا، ولم يعد أمامه إلا ان يلجأ لقبيلته من أبناء النوير ليشن حربا على الدولة المركزية في الجنوب، والتي يحس أبناء الجنوب من غير الدينكا منذ زمن بعيد أن الدينكا يسيطرون عليها، وبالتالي يمكن أن تتحول المعارك في الجنوب إلى معارك قبيلة شرسة، فقبائل الجنوب معروفة بعدائها الشديد لبعضها البعض عند الاقتتال.

أما باقان أمون ابن قبيلة الشلك التي تأتي في المرتبة الثالثة بعد الدينكا والنوير، فلم يكن له مصدر قوة في الجنوب سوى أنه الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان وأحد ابناء قرنق المخلصين، وبإحالته للتحقيق يفقد باقان أهم أوراقه في صراعه مع سلفاكير، ولن يستطيع أن يلجأ لقبيلة الشلك لأن معظم أبناء الشلك يدينون بالولاء لابنهم المقاتل المعارض لحكومة الجنوب الدكتور لام أكول.

أما الرسالة الثالثة فيريد سلفاكير توجيهها للاتحاد الإفريقي، ومفادها ان الخرطوم إذا اشتكت لكم من بعض الشخصيات المتنفذة في حكومة الجنوب واتهمتها بدعم حركات التمرد على الحكومة السودانية؛ فإن هؤلاء المشتكى منهم أصبحوا خارج التشكيلة الحكومية وخارج مواقع النفوذ في السلطة وفي الحزب الحاكم.

ولكن هل تمضي هذه القرارات الخطيرة في الجنوب بسلام؟ وهل يستسلم الصقران الجنوبيان مشار وباقان بهذه السهولة لغريمهما سلفاكير؟ وما هي الأوراق التي في أيديهما ليدافعا بها عن نفسيهما أو ينفذا بها هجمة مرتدة؟

الواقع ان الداخل الجنوبي لا يقدم شيئا ذا بال لكل من باقان ومشار، فسلفاكير يسيطر تماما على الحكومة والحركة والجيش، وبالتالي ليست لهما أي هامش تحرك داخل الجنوب يستعيدا بها مكانتهما، الشئ المتاح لهما فقط ان يلجأ إلى القوى الدولية في الشكوى من تصرفات سلفاكير، ويستعينا بأصدقائهما من الأمريكان والأوروبيين لاستعادة دورهما في دولة الجنوب، وهو الأمر الذي تعودا عليه ويحسنانه جيدا منذ أن كانا مجرد حركة متمردة ضد السلطة المركزية في الخرطوم. والسؤال هو إلى أي مدى يستطيع سلفاكير أن يصمد إذا ما واجهه غريماه بغضبة أوروبية وامريكية عارمة؟ وإلى أي مدى يستطيع سلفاكير أن يستعين بسفرائه في الخارج ومعاونيه في الداخل لشرح هذه الخطوة للقوى الغربية وإقناعها بجدواها لدولة الجنوب؟ الأمر في هذا يتوقف على معاوني سلفاكير ومستشاريه لأن سلفاكير نفسه شخصية عسكرية لا تميل إلى المعارك السياسية والدبلوماسية طويلة المدى وإنما يعتمد كغيره من العسكريين على سرعة الحسم ومباغتة الخصوم بخطوات جريئة تؤدي لكسب تكتيكي او استراتيجي سريع بأقل التكاليف.

قرارات الرابع عشر من رمضان الجنوبية تشابه إلى حد كبير قرارات الرابع من رمضان الشهيرة، فكلاهما صدرتا من رأس الدولة ذو الخلفية العسكرية، وأجريا بها جراحة دقيقة أطاحت بعدد من الخصوم السياسيين بموجب قرارات سيادية ذات مردود سياسي داخلي على صعيد الحزب والدولة. فهل يواصل سلفاكير في المزيد من أوجه الشبه فيحل البرلمان ويعلن حالة الطوارئ ويستبدل الأمين العام للحركة الشعبية بآخر من شيعته، أم يكتفي بهذه الخطوة الاستباقية وينتظر ليرى ماذا يفعل غريماه ليقرر خطوته التالية؟؟

الأيام القليلة القادمة، وتصرفات الخصوم في الجنوب وحدها ستجيب على هذه الأسئلة.

تحليل: حسن عبد الحميد: صحيفة أخبار اليوم

[/JUSTIFY]