هنادي محمد عبد المجيد

أدب الحوار في الإسلام‏

أدب الحوار في الإسلام‏
إن الإختلاف بين الناس في شئون دينهم أو دنياهم أمر قديم ، وسيبقى قائما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وشريعة الإسلام قد ساقت من المبادئ السامية والآداب العالية والهدايات الرفيعة ، ما يُنَظِّم هذه الخلافات ، والمُحاورات ، والمُناظرات التي تحدث بين الناس ، وما يجعلها تدور في إطار المنطق السليم ، والفكر القويم والجدال بالتي هي أحس، وما يجعل هدفها الوصول إلى الحق والخير ومنفعة الناس في حدود ما أحله الله تعالى لهم ،، ومن هذه المبادئ والآداب التي جاءت بها شريعة الإسلام ، لضبط المجادلات والمناقشات التي تدور بين الناس :
* إلتزام الصدق : وذلك بأن يكون الحوار بينهم قائما على الصدق وتحري الحقيقة ، بعيدا عن الكذب والسفسطة والأوهام ، ولقد ساق القرآن ألواناً من المحاورات التي دارت بين الرسل وأقوامهم ، وبين المُصلحين والمُفسدين ، وعندما تتدبرها ترى الأخيار فيها لا ينطقون إلا بالصدق الذي يدمغ الأكاذيب ،وبالحق الذي يزهق الباطل .
* إلتزام الموضوعية : ونعني بها عدم الخروج عن الموضوع الذي هو محل النزاع والخلاف ، فإن آفة كثير من الناس إذا ناقشوا غيرهم في موضوع معين ، تعمَّدوا أن يسلكوا ما يُسمى في هذه الأيام بخلط الأوراق ، بحيث لا يدري العقلاء في أي شيء هم مختلفون مع غيرهم وتتوه الحقيقة في خضم هذه الفروع التي لا تكاد تعرف لها أصلا .
* إقامة الحُجَّة بمنطق سليم : عن طريق إبراز الدليل الناصع والبرهان الساطع ، والمنطق السليم ، الذي يُلقم المُكابر أو المُعاند حجراً ، ويجعله لا يستطيع أن يمضي في جداله ، استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي لنا ما دار بين إبراهيم وبين الملك الكافر الظالم الذي كان يعيش في عصره : [ أَلَمْ تر إلى الذي حَاجَّ إبْراهِيمَ في رَبِّه أنْ آتَاه َاللَّهُ المُلكَ إذْ قَاَلَ إبْراهيمُ رَبِّيَ الذي يُحيي ويُميتُ قَالَ أنْا أُُحْيِ وأُميتُ قَالَ إبْرَاهيمُ فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي بالشَّمْسِ مِنْ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ المَغْرِبِ فبُهِتَ الذي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدي القَوْم الظَّالمينْ ] البقرة ٢٥٨ .
* أن يكون الهدف الوصول إلى الحقيقة : وهو أن يقصد كل طرف من أطراف الخِلاف إظهار الحق والصواب في الموضوع الذي هو موضع الإختلاف ، حتى ولو كان هذا الإظهار على يد الطرف المُخالف ، وهذا ما نراه في اختلاف الصحابة وفي محاوراتهم في كثير من القضايا ، ومن أمثلة ذلك المحاورة التي دارت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في مسألة جمع القرآن وفي شأن قتال المرتدين ، فكان كل طرف يُقنِع الآخر بوجهة نظره ويسلم له الرأي ، ولقد ساق الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين الجزء الأول الصفحة ٤٤ جملة من الآداب التي يجب أن يتحلى بها المتناظران أو المتحاوران في طلب الحق كناشد الضالة ،لا يُفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو يد من يعاونه ، ويرى رفيقه مُعيناً لا خصماً ،ويشكره إذا عرَّفهُ الخطأ وأظهر له الحق ،فهكذا كانت مُشاورات الصحابة ، ومحاوراتهم ،حتى أن امرأة ردَّت على عمر رضي الله عنه ونبَّهته إلى الحق وهو في خطبته على ملأ من الناس فقال : ” أصابت امرأة وأخطأ عمر ” وسأل رجل علياً رضي الله عنه في مسألة فأجابه ، فقال الرجل : ليس كذلك يا أمير المؤمنين ،ولكن كذا وكذا فقال علي : أَصَبْتِ أنتِ ،وأخطأتُ أنا – واليوم يُخطَّأ علماؤنا أجمع في مُقابل أن يُصيب رجل واحد ليس من العلماء في شيء ، سبحان الله – قال تعالى :[ وَفَوْقَ كُلِّ ذي عِلْم ٍعَليم ] يوسف ٧٦ ، وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه : ” ما ناظرتُ أحداً قط فأحببت أن يُخطِئ ، وما كلمت أحدا قط وأنا أُبالي أن يُظهِر الله الحق على لساني أو على لسانه ، وما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هِبتُه واعتقدت محبته ، ولا كابرني أحد على الحق إلا سقط من عيني ورفضته ، ووددتُ لو انتفع الناس بعلمي دون أن يُنسب إلَّي منه شيء ” .
* التواضع وإلتزام أدب الحديث : التواضع وتجنب الغرور وإلتزام الأسلوب المُهذَّب الخالي من كل مالا يليق .
* إعطاء المُعارض حقه في التعبير : وهو إفساح المجال أمام المُناقِش أو المُعارِض لغيره لكي يُعبِّر عن وجهة نظره دون مُصادرة لقوله أو إساءة إلى شخصه ، وفي الوقت ذاته إعطاء الحرية للجانب الآخر ،لكي يرد على المُخالف له بأسلوب مُهذَّب وبمنطق سليم وبأدب جم وبحرص تام على تبادل الإحترام فيما بينهما ،إذ الخلاف في الرأي بين العقلاء لا يُفسد للوُد قضية ، ومن أقوال بعض الفقهاء الحُكماء :” رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ ،ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ،ونتعاون فيما اتفقنا عليه ،ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ” .
* إحترام الرأي الصائب : من أسمى وأشرف ألوان أدب الحوار في الإسلام : إحترام رأي العقلاء ،الذين ينطقون بالكلمة الطيبة وبالحجة المقنعة ويسلكون السلوك الحميد في أعمالهم ،ويعفون عن كل ما يتنافى مع مكارم الأخلاق ،مما يشهد بإستنارة بصيرتهم ،ونقاء نفوسهم وطهارة قلوبهم وعلو همتهم وصفاء معدنهم ، وفي الحديث الشريف : { الناس معادن ،خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا } رواه البخاري .
* تحديد مسألة الحوار : وهو عدم التعميم في الأحكام ، والإحتراس في الأقوال ، وتحديد المسائل والقضايا تحديداً دقيقاً ، توضع فيه الألفاظ في مواضعها السليمة ، وتُقرر فيه الأمور تقريراً صادقاً عادلاً ،وتوزن فيه الأفعال بميزان القسط ،الذي لا يظلم أهل التقوى والعفاف والإستقامة ، ولا يُجامَل الذين أطاعوا أهواءهم ، وعموا وصموا عن الطريق القويم .
* أن يقوم الحوار على الحقائق الثابتة : ومن أوجب الواجبات ،لكي يكون الحوار بين الناس مفيداً ونافعاً ،وترجى من ورائه النتائج الطيبة والعواقب الحميدة : أن يقوم على الحقائق الثابتة لا على الإشاعات الكاذبة ،وأن يُبنى على المعلومات الصحيحة لا على الأخبار المُضطربة ، وذلك لأن الأحكام التي مصدرها الأكاذيب التي لا أساس لها من الصحة تكون أحكاما فاسدة ،لأنها لا سند لها من العقل الصحيح أو النقل السليم ، ومن المعروف عند العقلاء ،أن ما بُني على الفاسد فهو فاسد ، وما بُني على الصحيح فهو صحيح ،ولقد مدح القرآن الكريم أؤلئك الأصفياء الأنقياء ،الذين ينطقون بالكلام الطيب وبالقول الصادق فقال :[ وهُدُوا إلى الطيِّبِ مِنْ القَوْلِ وَهدُوا إلى صِرَاطِ الحَميد ] الحج٢٤ ..إن الحوار الذي يقوم على الحقائق الثابتة ،والمعلومات الصادقة والأخبار الصحيحة ، يُباركه الله تعالى ويثبِّت أصحابه ببركة تعاونهم على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان ، أما الحوار الذي يُبنى على الإشاعات الكاذبة والأراجيف الباطلة وسوء الظن المُتعمد فإن نتيجته الخيبة والخسران ، لأن سنة الله في خلقه قد اقتضت أنه لا يصح في النهاية إلا الصحيح ،ولن تجد لسنة الله تبديلا ،، ويُعجبني في هذا المقام ، قول الدكتور محمد البهي – رحمه الله – في كتابه ( تحديد المفاهيم أولا) :” لم يكن إختلاف الناس في الرأي ،واختلافهم في تطبيقه إلا وليد الإختلاف في تحديد مفاهيم الأشياء ، ومدلولات الكلمات والمصطلحات ، ولم يكن قيام المذاهب الفلسفية والدينية والسياسية، ولم تكن التبعية لها والجحود عليها إلا نتيجة الإختلاف في الرأي وفي تطبيقه ” .

هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]