[JUSTIFY]
إن الصحافة السُّودانية بدأت في الصدور منذ مطلع القرن العشرين وربما سبقتها محاولات قبل ذلك وهي الآن في عقدها الثاني عشر ومن أبكار الصحفيين السودانيين الذين عملوا فيها السيد حسين شريف رئيس تحرير صحيفة حضارة السودان والشيخ عبد الرحمن أحمد صاحب امتياز ورئيس تحرير السوداني. وصدرت مجلة النهضة وبعدها صدرت مجلة الفجر في الثلاثينيات وصدرت بعد ذلك عدة صحف بعضها كانت أسبوعية وأصبحت نصف أسبوعية ثم أضحت يومية وفي الفترة الممتدة منذ منتصف الثلاثينيات وحتى انتهاء عقد الأربعينيات صدرت صحف النيل وصوت السودان والسودان الجديد والرأي العام وصحيفة المؤتمر ولأمد قصير صدرت مجلة الرائد لصاحب امتيازها ورئيس تحريرها الأستاذ مكي عباس وكانت تصدر نشرة أخبار فوراوي باللغتين العربية والإنجليزية، وفي عقد الخمسينيات صدرت صحف الصراحة والأيام والأخبار وأنباء السودان والتلغراف وفي عام 1961م صدرت صحيفة الصحافة. ومن المجلات العريقة صدرت مجلة الصبيان عن مكتب النشر بوزارة المعارف ومجلة هنا أم درمان وفي مراحل لاحقة صدرت مجلات أخرى وكانت الصحف والمجلات المصرية تأتي من القاهرة بالبوستة وتوزع عبر المكتبات أو تصل رأساً للمشتركين فيها وعلى رأس تلك الإصدارات مجلة الرسالة لصاحبها أحمد حسن الزيات وغيرها من الإصدارات المصرية والبيروتية المعروفة ومجلة العربي ومن بعدها مجلة الدوحة ومجلة الفيصل … إلخ وصحيفتا الشرق الأوسط والحياة وغيرهما . وكان كثير من السودانيين قبل ظهور الفضائيات وانتشارها يحرصون على متابعة الأخبار من إذاعة أم درمان ومن إذاعة لندن وإذاعة صوت العرب وإذاعة صوت السودان من القاهرة التي حملت فيما بعد اسم إذاعة وادي النيل. وشهدت الثلاثة عهود الحزبية زائداً الفترات الانتقالية التي مرت بالسودان صدور صحف مستقلة عديدة وأخرى حزبية «العلم والأمة والميثاق والراية والميدان». وفي العهد العسكري النوفمبري أُلغيت الصحف الحزبية ومُنعت من الصدور وسُمح للصحف المستقلة بمواصلة الصدور وفق ضوابط صارمة. وأصدر النظام الحاكم صحيفة ناطقة باسمه هي «الثورة»، وعهد رئاسة تحريرها للأستاذ محمد الخليفة طه الريفي وكان اللواء محمد طلعت فريد وزير الاستعلامات والعمل والأستاذ محمد عامر بشير فوراوي مدير الوزارة والأستاذ أحمد خير المحامي وزير الخارجية والمشرف على الصحيفة يولونها اهتماماً كبيراً وكان باعة الصحف يطلقون عليها «البرش بي قرش». وفي عهد مايو أوقفت الصحف الحزبية وسُمح للصحف المستقلة بالصدور في حدود «أرعى بي قيدكـ» وفي عام 1970م تم تأميم الصحف ودُمجت في دارين هما دار الصحافة التي كانت تصدر صحيفة الصحافة اليومية وصحيفة الرأي العام الأسبوعية ودار الأيام التي كانت تصدر صحيفة الأيام اليومية وصحيفة السودان الجديد الأسبوعية. وفي عام 1972م حولت صحيفة الصحافة والأيام من حجم التابلويد للحجم الكبير وأدخلت طباعة الاوفست مع قيام ادارات واقسام صحفية متخصصة في شتى المجالات. وأما في عهد الإنقاذ فقد أُوقف إصدار كل الصحف المستقلة والحزبية منذ أول يوم للانقلاب وسُمح فقط بصدور صحيفة القوات المسلحة وكانت توزع في تلكـ الأيام أكثر من مائة ألف نسخة في اليوم، وكتب رئيس تحريرها دكتور محمود قلندر مقاله الشهير هل هؤلاء الرجال جبهة؟ وصدرت بعد ذلك صحيفة السودان الحديث وصحيفة الإنقاذ الوطني. وفي عام 1994م سُمح بإصدار الصحف اليومية الخاصة وتوالى صدورها وكثر عددها إضافة للصحف الرياضية والاجتماعية ويعاني أصدقاؤنا أصحاب المكتبات في عرضها لضيق الحيز وكثرتها بمسمياتها العديدة. وفي سبعينيات القرن الماضي كان مجموع ما توزعه صحيفتا الصحافة والأيام حوالى مائتي ألف نسخة بمعدل مائة ألف نسخة للصحيفة الواحدة وبعد ما يقرب من الأربعين عاماً فإن عدد القراء قد تضاعف أضعافاً مضاعفة مرات ومرات وتبعاً لذلك ينبغي أن يتضاعف عدد النسخ المطبوعة عشر مرات على أقل تقدير أي ينبغي أن يكون عدد النسخ المطبوعة من كل الصحف حوالى مليوني نسخة وقد تطورت الطباعة وحدث تقدم تكنلوجي هائل وثورة في الاتصالات والمواصلات مع تدفق المعلومات وسرعة بث الأخبار ولكن بكل أسف أن الكمية المطبوعة من كل الصحف أقل من ذلك كثيراً. وبدون خوض في التفاصيل فإن مرد ذلك يعود لاقتصاديات الصحافة والتي أصبحت صناعة باهظة التكاليف لارتفاع أسعار الورق وأسعار مدخلات الطباعة الأخرى ارتفاعاً جنونياً بسبب إرتفاع قيمة الرسوم والجمارك والضرائب وإن من واجب الدولة أن تزيل كل المكبلات والمعوقات وألا تقف مكتوفة الأيدي ومن واجبها المساهمة في بث الوعي والتنوير والمعرفة بتسهيل أداء القنوات الموصلة لذلك وكان بالإمكان إنشاء مصانع ورق وكل خاماتها ومقومات نجاحها متوفرة. وإن الصحف تعتمد في إيراداتها على عائد مبيعاتها وعائد الإعلانات التي تُنشر فيها ولكن الحكومة أقامت وكالة رسمية جعلت كل الإعلانات الحكومية حكراً لها لتوزيعها على الصحف فتمنح أو تمنع وفق هواها وأضحت بالتالي إحدى أدوات الضغط ولي الأذرع والأيدي وفي هذا ترغيب وترهيب. وإن القارئ هو الفيصل والحكم العدل فهو الذي يذهب للمكتبات وأماكن بيع الصحف بمحض إرادته ويختار بحرية تامة وبلا إكراه ما يروق له من صحيفة أو مجموعة صحف وشهادة القارئ هي المعتمَدة وبموجبها تُستخرج النتيجة وفق أرقام التوزيع في قائمة تضم الرأس والذيل وما بينهما. وورد في بعض الصحف أن السيد النائب الأول تحدث عن تسلل وتقرب بعض الصحفيين الانتهازيين والوصوليين «حسب الوصف الذي قرأناه» لكبار المسؤولين بالدولة. وربما كانت في ذهن سيادته حالات محددة إذ لا يمكن أن ينطبق هذا ضربة لازب على الجميع وسيادته لم يعمِّم. وقد تجمع المؤتمرات الصحفية بين هؤلاء وأولئك وقد يكون الالتقاء عن طريق انتقاء بعض الصحفيين لمرافقة بعض المسؤولين بدرجاتهم المختلفة في زياراتهم ورحلاتهم الداخلية والخارجية وقد تنشأ بعض العلاقات الطيبة على المستوى الإنساني ولا ضير في ذلك وليس بالضرورة أن ترتبط أي علاقة بمنفعة ومصلحة شريطة ألا تؤثر هذه العلاقة على الأداء المهني بالانسياق وراء العاطفة وتصبح مهمته هي تجميل صورة صاحبه والمطلوب أن تكون العلاقة مبنية في مستواها الإنساني على الاحترام المتبادل دون تهافت وتساقط وحرق للبخور وقد يكون بعض الصحفيين والمراقبين على مبعدة تماماً من الحاكمين والمعارضين ويكتبون بلا هوى أو غرض ويدورون مع الحق حيث دار لا يغرهم ذهب المعز ولا يرهبهم سيف المذل وارتباطهم هو ارتباط بمشروع وطني إسلامي كبير سيظلون متمسكين به إذا ذهب النظام أو بقي ولذلك فإنهم لا يدورون في فلك الأفراد الذين يصيبون ويخطئون كسائر البشر ولكنهم يرتبطون بمشروع كبير هم شركاء أصلاء فيه ولا يحتاجون لبطاقة انتماء أو صك غفران من أحد. وإن الصحافة ينبغي أن تكون في مقدمة الركب تنير الطريق وتعبد الدرب وتحمل مصباح الوعي والاستنارة ومكانها ليس المؤخرة لتحرق مباخر النفاق للآخرين وسلطتها مستمدة من المجتمع والرأي العام والشارع السوداني العريض.
ونشرت مجلة المصور المصرية عام 1954م قائمة سرَّبها بخبث بعض المصريين وكانت تحوي أسماء صحف وصحفيين سودانيين تدَّعي الوثيقة المزعومة أو الصحيحة أنهم كانوا يتقاضون منحاً مالية سرية من الحكومة المصرية عبر أجهزة مخابراتها. وبعد انطواء صفحة الحكم العسكري النوفمبري صرح بعضهم بأن بنداً كان اسمه المال الخاص كان مخصصاً لمنح منح سرية تُصرف لبعضهم كهبات شخصية أو لدعم صحفهم وربما تكون هناك ممارسات مماثلة في عهود تالية وقطعاً إن مثل هذه الأموال لا تطير من الخزينة وتدخل رأساً في جيب من تدفع إليه ولا تتم مثل هذه العمليات عن طريق الجن ولكنها تتم عن طريق الإنس وإن الكثيرين حينما يبتعدون عن مواقعهم أو يبعدون بإحالتهم للمعاش أو لأي أسباب أخرى فإنهم يسربون المعلومات والأرقام. وإن بعض المسؤولين السابقين يصبح بعضهم مثل بت مجدوب في موسم الهجرة للشمال تتحدث بصراحة تبلغ درجة الوقاحة ولا يتوانى بعض هؤلاء في الحديث عن الهبات والمنح «والرشاوي» التي كانوا يقدمونها والابتزاز الذي كانوا يتعرضون له. ولعل هذه حالة مُرضية في بعض دول العالم الثالث وبالطبع ليس كل ما يُعرف يقال أو يُكتب ولكن يكفي الصحافة السودانية فخراً أنها تزخر بأغلبية كاسحة ساحقة من الشرفاء الأطهار الأخيار من الشيوخ الناضجين المجربين والشباب النابهين الذين لا يعرفون «الظروف» مهما كانت الظروف ودورهم الوطني العظيم مشهود في معركة التحرر الوطني وفي المراحل التالية وفي ظل الأجهزة التشريعية الرقابية الكسيحة فإن الصحافة السودانية تضطلع بدور وطني هام وسجلّها مشرِّف ولكن الثوب الأبيض الناصع قد تكون فيه بقع سوداء صغيرة متفرقة هنا وهناك لا تصلح أن تصبح حكماً عاماً. والصحفيون يمثلون شريحة هامة في المجتمع السوداني تضطلع بدور وطني عظيم رغم المكبلات المالية في صناعة واقتصاديات الصحافة .
صحيفة الإنتباهة
صديق البادي
[/JUSTIFY]