تحقيقات وتقارير

دولة جنوب السودان تدخل دوامة العنف


[JUSTIFY]هناك دول مكتوب أن يسيطر عليها الانقسام والصراع، لأن المصالح الشخصية والحزبية والحركية تغلب على أصحابها، وتتعمد قياداتها تغييب المعايير الوطنية، لذلك فمهما قامت من تحركات أو أقدمت على خطوات ستظل رهينة لهذا الاستقطاب، وتتعاظم المشكلة عندما تلعب بعض الأيادي الخارجية دوراً مؤثراً في تأجيج الانقسام والصراع، وتتحول المشكلة إلى أزمة حادة يصعب السيطرة على مفاتيحها ومقاديرها، ويطل شبح الحرب الأهلية برأسه، بعد أن يختفي صوت الحكمة والعقل ويعلو صوت العراك بالسلاح . في هذه اللحظة يتم استثمار الاشتباكات وتوظيف الصدامات بين الأطراف المختلفة، وعندما يشتد المشهد السياسي والعسكري قتامة وغموضاً، تصبح لغة الاتهامات ولهجة التخوين هما السمة الغالبة، والآن يمر جنوب السودان بحالة شبيهة من ذلك، إلى درجة جعلت الكثير من الدوائر تعتقد أن الدولة الجديدة، أضحت على فوهة بركان، بعد نحو عامين من ولادتها الرسمية، الأمر الذي يرخي بظلال سلبية على بعض الحسابات الإقليمية والدولية، التي راهنت على استقرار الجنوب .

المعارك التي اندلعت في ولاية جونقلي في نهاية يوليو/ تموز الماضي واستمرت نحو أسبوعين، كشفت عن كثير من المقاطع السياسية والأمنية المخيفة، والتي حذرت منها جهات متعددة منذ استقلال الجنوب، حيث اشتبك جيش جنوب السودان مع متمردين يقودهم السياسي ديفيد ياو ياو في شرق البلاد، وأدت العمليات العسكرية التي استخدمت فيها أسلحة متطورة إلى مصرع أكثر من 300 شخص من قبيلة مورلي، التي تخوض صراعاً طويلاً مع قبيلة النوير في ولاية جونقلي، والأخيرة (النوير) واحدة من أهم ثلاث قبائل كبرى في جنوب السودان، وتأتي تالية لقبيلتي الدينكا والشلك، وقد أفضت الصراعات القبلية منذ استقلال الجنوب وحتى الآن إلى مقتل نحو 1600 شخص، فضلاً عن الضحايا الذين ذهبوا نتيجة اشتباكات مباشرة وغير مباشرة بين قوات الخرطوم وجوبا، التي تتهم كل واحدة الأخرى بدعم المتمردين في الناحية المقابلة، فجوبا لديها اقتناع راسخ ومنذ فترة بأن النظام السوداني يدعم ديفيد ياو ياو وغيره من القيادات الميدانية للمتمردين، ممن عادوا إلى حضن الدولة في الجنوب، ومَن أبوا ورفضوا كل العروض المغرية من الحركة الشعبية، وخلال الأيام الماضية قامت لجنة التحقيق والشكاوى التابعة للاتحاد الإفريقي بزيارة الخرطوم، للنظر في الشكاوى المقدمة من حكومة جوبا حول دعم السودان لجماعات متمردة، تقاتل ضدها بضراوة، وتغذي الصراعات بين القبائل المختلفة بشراسة

حرب بالوكالة

في المقابل، تشن الخرطوم حرباً إعلامية وسياسية ضد جوبا، وتتهمها بأنها الداعم الرئيس للمتمردين في ولايتي جنوب كردفان وبحر الغزال، وكذلك الميليشيات المسلحة في منطقة دارفور، وهي في نظرها الحاضنة (جوبا) لالجبهة الثورية السودانية التي تتكون من حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان – جناح منى أركو ميناوي والحركة الشعبية لتحرر السودان – قطاع الشمال، وتسببت المعارك التي تخوضها ضد القوات الحكومية في تكبيد الثانية خسائر مادية كبيرة وفي أماكن متفرقة، وبلغت ثقتها في نفسها حد أن لوحت باقتحام العاصمة الخرطوم، وبموجب الحرب بالوكالة التي يخوضها المتمردون على الجانبين، توترت العلاقات بين الخرطوم وجوبا خلال الأسابيع الماضية، وقادت إلى مشكلات هيكلية، وتعطل بسببها تنفيذ الكثير من الاتفاقيات التي جرى توقيعها، وتخريب مجموعة مهمة من التفاهمات، ودخل الطرفان مرحلة حرجة من المناوشات، يمكن أن تتكبد فيها الدولتان خسائر فادحة .

لذلك جنحت كلتاهما نحو التهدئة أخيراً، وفي ظل تصاعد حدة الأزمات الداخلية في البلدين، أصبح كل من، نظام البشير في الخرطوم ونظام سلفا كير في جوبا، على محك واختبار جديدين، فرضت نتيجتهما المتشائمة المتوقعة ركونهما إلى الحوار، لنزع فتيل القضايا والملفات المتراكمة والتي يمكن أن تنفجر في أية لحظة في وجه الرئيسين، وفي مقدمتها طوفان الصراعات القبلية الذي يجتاح الدولتين، فخلال الفترة التي تجددت فيها الصدامات في جونقلي، كانت دارفور تعاني الداء نفسه، وراح عشرات من المواطنين ضحية الاشتباكات بين قبيلتي السلامات والمسيرية هناك .

البعض يعتقد أن الصراع القبلي هو الآفة الوحيدة التي تواجه النظام الحاكم في جوبا، وأن التغلب عليه أو تقليص أضراره يمكن أن يؤدي إلى قدر من الاستقرار في الجنوب، في حين أن الحقيقة تقول إن الأزمة ليست قبلية فقط، فهناك حزمة من المشكلات الاقتصادية والسياسية والأمنية الخطيرة التي تعرقل طموحات الجنوبيين في الوصول إلى دولة هادئة وآمنة، فعلى المستوى الاقتصادي أخفقت حكومة سلفا كير في تلبية تطلعات الناس، حيث كانت تعتقد أن الانفصال سيؤدي إلى الرفاهية، ودخلت الدولة في دوامة من الأزمات استنزفت جزءاً كبيراً من مواردها، وجاءت مشكلة توقف تصدير النفط لفترات طويلة عبر الشمال لتزيد الموقف سخونة، في دولة ناشئة ومواردها محدودة وتعتمد بشكل أساسي على احتياطياتها النفطية التي لم تتمكن من استثمارها، فضلاً عن العطايا الكثيفة التي منحها سلفا كير لأنصاره لضمان ولائهم، والإفراط في السخاء لاستقطاب عدد كبير من مناوئيه من المتمردين والميليشيات لاسترضائهم، وكسر شوكتهم، وإبعادهم عن فكرة محاربته .

مستويات مركبة

على المستوى السياسي، لا تزال عملية إقالة الحكومة السابقة في 23 يوليو/ تموز الماضي وتشكيل أخرى بعد نحو أسبوع، تحدث دويها في الشارع الجنوبي، فالطريقة التي أقيلت بها أساءت إلى أعضائها، كما أن إبعاد نائب الرئيس رياك مشار عن منصبه وتعليق مهام باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية زاد الموقف صعوبة، وبدا لكثير من المراقبين أن كير يتخلص من منافسيه المحتملين على منصب رئاسة الجمهورية، وهو ما ضاعف من حنق معارضيه، ومنحهم فرصة للتكاتف ضد سياساته، لاسيما أن الحكومة الجديدة التي شكلها ضمت أسماء محسوبة على النظام الحاكم في الشمال، وبدا أن الخرطوم تمكنت من عودة رجالها للمشهد السياسي في الجنوب، كما أن أغلبية الشخصيات التي دخلت الوزارة تبدو ضعيفة في نظر قطاع كبير من المعارضة، بما فسروه بأن كير يغازل الخرطوم، ويريد عرائس مارونيت يستطيع أن يحركها كيفما شاء ويتحكم في تصرفاتها كيفما يريد، وقد أعطت تشكيلة الحكومة انطباعات أن كير يدافع عن عرشه بتهميش معارضيه، ومحاولة شراء مناهضيه بطريقة ناعمة، لأن الوسائل الخشنة لم تحقق أهدافها، بل أرهقت قواته، وأدخلته في دوامة القتال على جبهات مختلفة .

ومع أن المستوى الأمني شغل بال جميع أطراف المعادلة السودانية، بشقيها الشمالي والجنوبي، طوال السنوات الماضية، وحسب البعض أنه ولّى وانتهى، غير أن مشاهد الاقتتال الأهلي، خاصة في الجنوب، ترجح ازدياده ضراوة، مستفيداً من الفشل على المستويين الاقتصادي والسياسي والإحباطات المترتبة عنهما، ومستثمراً الفوضى السائدة في مناطق كثيرة، وربما تكون معارك جونقلي الأخيرة واحدة من المشاهد الساخنة والمتقطعة التي تصلح لأن تكون نواة لحرب أهلية محتملة في الجنوب، تراهن عليها بعض الجماعات المسلحة، وتعتقد أن الوصول إلى هذه النقطة أو حتى مشارفها يمكن أن يغير المعادلة الراهنة ويقلبها رأساً على عقب، بالتالي تخسر الجهات الدولية التي اعتقدت أن سلفا كير هو رجل المرحلة، الذي في مقدرته السيطرة على الأمور في اللحظة الفارقة .

الواضح أن الانقسام والصراع سوف يستمران في ملاحقة أي تصرفات إيجابية في جنوب السودان، وتعطيل كل المحاولات الرامية لبناء الدولة، ومحتمل أن تتوقف فرص القضاء على هذا الداء على ثلاثة عوامل أساسية، الأول حجم الضغوط التي تمثلها العناصر القبلية على جوبا، ولعل حادث مصرع عشرات من قبيلة دينكا نقوق في أبيي قبل بضعة أشهر على أيدي قبائل المسيرية كان كاشفاً لهذه المسألة، حيث اضطرت جوبا لأن تتخذ مواقف حادة من الخرطوم، التي تعتبر من وجهة نظرها محرضاً على العنف في هذه المنطقة، وثانياً الدور الذي تقوم به الميليشيات التابعة لقيادات مسلحة سابقة، ومدى نجاحها في تكبيد القوات الحكومية لخسائر بشرية ومادية، فكلما أحرزت انتصارات في هذا الفضاء واجهت الحكومة أزمة في إنهاء الصراعات التي يشعلها المتمردون، والعكس صحيح، والعامل الثالث يتعلق بقدرة المعارضة السياسية على إجبار سلفا كير وحكومته على اتخاذ خطوات إصلاحية، بما يخفف من توجهها نحو اللجوء إلى دعم الفصائل المسلحة، التي تعد بمثابة النصل الذي يضغط على ظهر الحكومة .

الخليج الاماراتية
محمد أبو الفضل
[/JUSTIFY]