هنادي محمد عبد المجيد
القوة الهادئة
لم يكن هذا السلوك وقتها نابعاً من روح أخوية ، أو لمسة حضارية ،بل لأن القانون الأمريكي آنذاك كان يمنع منعاً باتاً جلوس الرجل الأسود وسيده الأبيض واقف !
حتى وإن كانت الجالسة امرأة سوداء عجوز ،وكان الواقف شاباً أبيض في عنفوان شبابه ،فتلك مخالفة تُغرم عليها المرأة العجوز !
وكان مشهورا وقتها أن تجد لوحة مُعلقة على باب أحد المحلات التجارية أو المطاعم مكتوبا عليها ( ممنوع دخول القطط والكلاب والرجل الأسود ) كل تلك الممارسات العنصرية كانت تصيب روزا بحالة من الحزن والألم والغضب .
فإلى متى يُعاملون على أنهم هم الدون والأقل مكانة ، ولماذا يُحقَّرون ويُزدرون ، ويكونوا دائما في آخر الصفوف ، ويصنفون سواء بسواء مع الحيوانات ؟
عندما وقفت الحافلة استقلتها روزا وقد أبرمت في صدرها أمراً ، قلبت بصرها يمنة ويسرة ، فما أن وجدت مقعداً خالياً إلا وارتمت عليه ،وقد ضمت حقيبتها إلى صدرها ،وجلست تراقب الطريق ،، إلى أن جاءت المحطة التالية ، وصعد الركاب ، وإذا بالحافلة ممتلئة ، وبهدوء اتجه رجل أبيض إلى حيث تجلس روزا منتظرا أن تفسح له المجال ، لكنها نظرت له في لا مبالاة ،وعادت لتطالع الطريق مرة أخرى !! ثارت ثائرة الرجل الأبيض ، وأخذ الركاب البيض يسبُّون روزا ويتوعدونها إن لم تقم من فورها وتُجلس الرجل الأبيض الواقف ! لكنها أبت وأصرت على موقفها ،فما كان من سائق الحافلة أمام هذا الخرق الواضح للقانون إلا أن يتجه مباشرة إلى أقرب مغفر شرطة كي تقتص الشرطة من تلك المرأة السوداء التي أزعجت السادة البيض ! وبالفعل تم التحقيق معها وتغريمها ١٥ دولارا نظير تعديها على حقوق أسيادها !! وهنا انطلقت شرارة الغضب في سماء أمريكا ، ثارت ثائرة السود بجميع الولايات وقرروا مقاطعة وسائل المواصلات ،والمطالبة بحقوقهم كبشر لهم حق الحياة والمعاملة الكريمة ، استمرت حالة الغليان مدة كبيرة ،امتدت لعام وأكثر ،وأصابت أمريكا بصداع مزمن ، وفي النهاية خرجت المحكمة بحكمها الذي نصر روزا باركس في محنتها ، وتم إلغاء ذلك العُرف الجائر ، وكثير من الأعراف والقوانين العنصرية ، وفي ٢٧ أكتوبر من عام ٢٠٠١ وبعد مرور ٤٦ عاما على هذا الحادث ،تم إحياء ذكرى الحادثة في التاريخ الأمريكي ،حيث أعلن ستيف هامب مدير متحف هنري فورد في مدينة ديربون في ميتشغن عن شراء الحافلة القديمة من موديل الأربعينات التي وقعت فيها الحادثة التي قدحت الزناد الذي دفع حركة (الحقوق المدنية) في أمريكا للإستيقاظ ، بحيث تعدل وضع السود ،وقد تم شراء الحافلة بمبلغ ٤٩٢ ألف دولار أمريكي ، وبعد أن بلغت روزا باركس الثمانين من العمر ، تذكر في كتاب صدر لها بعنوان ( القوة الهادئة )عام ١٩٩٤ ، بعضا مما اعتمل في مشاعرها آنذاك ، فتقول : ” في ذلك اليوم تذكرت أجدادي وآبائي ،والتجأت إلى الله فأعطاني القوة التي يمنحها للمستضعفين ” .
وفي ٢٤ أكتوبر عام ٢٠٠٥ احتشد الآلاف من المشيعين الذين تجمعوا للمشاركة في جنازة روزا باركس رائدة الحقوق المدنية الأمريكية التي توفيت عن عمر يناهز ٩٢ عاما ،، يوم بكى فيه الآلاف ، وحضره رؤساء دول ، ونكس فيه علم أمريكا وتم تكريمها بأن رقد جثمانها بأحد مباني الكونجرس منذ وفاتها حتى دفنها ،وهو إجراء تكريمي لا يحظى به سوى الرؤساء والوجوه البارزة ،، ولم يحظ بهذا الإجراء سوى ٣٠ شخصاً منذ عام ١٨٥٢ ،ولم يكن منهم امرأة واحدة ،، ماتت على صدرها أعلى الأوسمة ، فقد حصلت على الوسام الرئاسي للحرية عام ١٩٩٦ ، والوسام الذهبي للكونجرس عام ١٩٩٩، وهو أعلى تكريم مدني في البلاد ، وفوق هذا وسام الحرية الذي أهدته لكل بني جنسها عبر كلمة (لا) أشهر كلمة في تاريخ أمريكا ،،
فمتى سيقول الشعب السوداني المستضعف كلمة (لا) في وجه الوافدين المستعمرين لبلادنا بحجة الإستثمار ؟ ومتى تضع الدولة قانوناً عادلا رادعاً يحفظ للمواطن السوداني حقوقه وكرامته بينه وبين بني جنسه وبينه وبين الغريب ؟ ، كثرت الحوادث وطال الصبر على قانون ناقص غير منصف غير عادل ،وعلى القائمين على القانون في بلادنا أن يعلموا أنهم في مُهلة من الله وأن للصبر حدود ، !
هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]