هنادي محمد عبد المجيد

كيميا الحياة‏


كيميا الحياة‏
حينما دبَّتْ الحياة على مسرح الدنيا منذ ملايين السنين ، كان المسرح يختلف كثيراً عن حاله الآن ، كانت الأرض ساخنة والجو مُثقلاً بالبخار ، ولم يكن الأكسجين بهذه الكثرة وإنما نادراً ، وكان الغاز المنتشر بكثرة هو الأيدروجين والنوشادر والميثان وأول أكسيد الكربون ، وكان ومض البرق وفرقعة الرعد والضوء فوق البنفسجي والإشعاع الذري والشحنات الكهربائية العالية لا تنقطع ، وكانت المياه تغمر مساحات واسعة في برك ضحلة ، ولم تكن المياه صافية رائقة يطفو عليها الطُّحلب الأخضر كمياه الغدران الآن ، وإنما كانت مياهاً عكرة كثيفة كالحساء مليئة بأملاح الفسفور والكالسيوم والصوديوم والبوتاسيوم والحديد والكبريت ، في هذا المسرح الكيميائي النشط بدأت الحياة .
استطاعت المعامل أن تثبت أن مادة الحياة واحدة تقريبا في كل الكائنات الحية ، وأن كل المواد التي تتألف منها البنية الحية لا تخرج عن كونها سكريات ونشويات ودُهنيات وبروتينات ،، كل المواد الحية مشتقات من مادة هيدروكربونية ، من غاز الميثان ، وهو غاز يتألف من الكربون والأيدروجين ، فما هو الشيء السحري الذي جعل مادة الكربون بالذات هي المادة المختارة لنشأة الحياة ؟ ،، السر أن هذه المادة قلقة غير مستقرة ،غير مُشَبَّعة ، فيها قابلية لا نهائية للإرتباط بعدد لا نهائي من المُرَكَّبات والمبادلة عليها بذراتها في كل وقت ،، وقد ثبت أن المواد المستقرة التي يسمونها في الكيمياء المواد النبيلة كالذهب والبلاتين وغاز الهيليوم والأرجون والكربتون ، كل هذه المواد ظلت مواد عاطلة خاملة مثل الأمراء الخاملين ، بدأت وانتهت على حالها دون أن تعطي امكانيات جديدة ، والسبب أن ذراتها مُشَبَّعَة متوازنة مُستقرة لدرجة الموت ، ولهذا لم يدخل أي واحد من هذه العناصر في تركيب الجسم الحي ، وإنما اختارت الحياة مادة واحدة بعينها شديدة القلق ناقصة غير مُشبَّعَة كثيرة الإنفكاك والإرتباط بالمواد حولها لتكون مُستقراً لها ، هي مادة الكربون لأنها مستودع لطاقة كيميائية لا نهائية ومحل لتفاعلات لا آخر لها .
إنَّ مِفتاح الحياة هو الكربون ، لأنه مادة جائعة غير مُشْبَعَة تنقصها أربعة إلكترونات في مدارها الذري لتصل إلى الراحة والتوازن ، ولهذا فهي دائما تدخل في علاقات وتفاعلات مُحاوِلة الوصول إلى هذا التوازن ،، وتكون نتيجة هذه التفاعلات متتالية كيميائية لا حصر لها ، تبدأ من غاز الميثان ، الهيدروكربون ، إلى المواد الكربوهدراتية كالسكريات ، والنشويات ، إلى الجلسرين والدهون ، إلى البروتينات
كل هذه المتتالية الحية هي تعقيد واشتقاق من مادة واحدة هي الكربون أو الفحم .. واختيار الحياة لعنصر الكربون بالذات لتتخذ منه الطوب الذي تَبْنِي به مِعمارها اختيار فيه حكمة ، لأن الكربون عنصر نشيط ،احتمالاته الكيميائية لا حصر لها ، وقد ثبت بالحساب أن الجُزَيْءْ الذي يحتوي على عشرين ذرَّة من الكربون يمكنه أن يُعطي مليون صورة لتركيبات جديدة ، لقد كان اختياراً إلاهياً ،، وأنواع البروتينات في جسم الإنسان تبلغ مائة ألف نوع ، والسر في هذا التنوع الواسع هو في طبيعة المادة الحيَّة نفسها ،، إنَّ البروتينات التي تتألف من ٢٤ حامضاً أمينياً يمكنها أن تُعطي امكانيات مثل التي تُعطيها حروف الهجاء ال٢٦ ، يمكنها أن تعطي ألوف الكلمات وملايين الجُمل ، كل جُملة تختلف عن الأخرى ، لأن تحت يدها ٢٤ حرفاً كيميائاً تصنع منها تباديل وتوافيق ،، وأهم مادة حية هي البروتين لأن جُزَيْءْ البروتين ثقيل ، فيه أكثر من خمسة آلاف ذرة في المتوسط ، مُتَعدِّدْ الإحتمالات لدرجة مُذهلة ، ، والسؤال الثاني الذي خطر ببال الكيميائيين هو ( الماء ) سِرُّ الماء ، ماهو سِرُّ الماء ؟ لماذا تبدو الحياة كأنها منقوعة كلها في الماء ؟ لماذا يؤلف الماء معظم النسيج الحي ؟ ولماذا يدخل كشرط في كل بنية حية ؟ ،، لقد تعودنا أن نتعلم في المدارس أن الماء سائل لا طعم له ولا لون ولا رائحة ، وهذه أكذوبة كبرى ، لأن الماء هو أكثر السوائل نشاطاً لأن تركيبه هو الآخر تركيب قلق غير مُستقر غير مُشبَّع .
أثبت الفحص الذرِّي للماء أن ذرَّة الأيدروجين في معظم سطحها عارية بدون الكترونات ، ولهذا كانت شديدة الشوق إلى استعارة إلكترونات من أي مادة تُلامسها ، وهذا سر قدرة الماء على إذابة المواد والتفاعل معها وتحليلها إلى أيوناتها ،، الماء ليس خاملاً ، وليس عديم الطعم ، عديم النشاط ، ولكن الماء توازنه الكهربائي ناقص ، ولهذا فهو يروي من العطش ، إنَّ له طعماً حيوياً ، بدليل أنَّ الماء الثقيل المُشَبَّعْ لا يروي ، وإذا شربت منه صفيحة ، فإنك لا بد هالك عطشا !
والماء له فعل آخر ، إنه يحوِّل مادة البروتين إلى كُتَل غرويَّة جيلاتينية في حالة تماسك كهربائي لا هو بالتجبُّن ولا هو بالتخثُّر ، وبهذا يصنع خامة حيَّة شديدة الحساسية لتقلبات البيئة وهذه صفة أساسية في الحياة ، شدة الحساسية وعدم الثبات والقلق والتغيُّر والتحوُّل ،، وهذا البحث البسيط القصير يثبت لنا أن مادة الحياة فيها حياة ، فيها صفات الحياة ، وأن نشأة الحياة من مركبات الكربون والماء لم تكن مصادفة ، وأن الإحتمال أكبر من أن يكون مجرد خبطة عشوائية ،، إنه ضرورة وراءها خلق خالق .
هذه المادة العلمية على اختصارها ، أعتبرها جرعة صغيرة للتذكير بناحية أُهمِلت وكادتْ أن تنعدم في حياتنا بل انعدمت في الحقيقة ، وهي التفكر والتأمل في خلقنا وللتذكير بالعلم الذي بدأت أهميته تتهاوى بين محطات القنوات الفضائية و الإنترنت الذي التهم أوقاتنا وأفقدنا لذة التعلُّم والبحث عن المفيد ، بل أصبح العلم لا قيمة له بين الناس ولا أحد يكترث به ، وهناك ملاحظة أخرى وهي أن المادة العلمية التي يجب أن تُقدمها القنوات التلفزيونية قد إنعدمت تماماً ، ولا أدري ما الهدف من ذلك ؟ هل الهدف توجيه الناس نحو الجانب المادي المُجرَّد من الحياة ، أو هو التهيئة لرفع العلم من الأرض كما هي صفات آخر الزمان حين تقترب الساعة ؟! وفقنا الله وإياكم لما فيه خيرنا ، ولنا لقاء .

هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]