هنادي محمد عبد المجيد

جداً جداً جداً‏


جداً جداً جداً‏
إن أسوأ ورطة نقع فيها هي أن يستحوذ علينا أي شيء جداً جداً ،، حتى الفرح حينما يستحوذ علينا جدا ، جدا ، فإنه يهزنا بما يشبه الحزن ،، إننا من فرط خوفنا على هذا الفرح ، ومن فرط لهفتنا على أن يطول ، ومن فرط ذعرنا من أن ينتهي ، نفرح بحزن ، نفرح بخوف ، نفرح والدموع تترقرق في أعيننا ، إن فرحنا جداً جداً ، فرح أليم ، فرح يرتجف ،فرح يُبكي صاحبه لدرجة أنه ينقلب إلى كراهية وعداوة ،، المحب جداً جداً ، يكره حبيبته من فرط حبه لها ،، لأن حبه يكلِّفه ويرهقه ويبهظه ويؤرقه ، فهو يتمنى لو أنها تعذبت وتألمت وسهرت وتشردت مثله ،، يتمنى لو أنها كانت على شفا الموت ونادته ، لو أنها كانت تحترق ومدت له يديها لينقذها ، لو أنها كانت تعبده حباً وهو يمتنع عليها ،، لو أنها كانت تخلص له وهو يخونها ،، إن عذابه يجعل مخيلته تموج بصور العداوة ، والإنتقام والتشفي ،،
إن الحب جداً جداً ، حب طعمه مالح حريف لاسع ، إنَّ فيه نفوراً وبغضاً بقدر ما فيه من حب ، إنه لعنة ،،
والثراء جداً جداً ، هو فقر مدقع في نفس الوقت ، فقر في الحواس ،،حواس الغني جداً جداً، المترف جداًجداً ، الشبعان ، المتخم ، الدفيان ، تتبلد وتكسل ،، أشواقه تكسل ، ولهفاته تكسل ، ولماذا يشتاق ، ولماذا يتلهف وكل شيء بين يديه ؟ ،،والجوع جداً يقتل الإحساس بالجوع ، وينتهي بموت الحواس وبشبع الفناء وقناعة الجدث الهامد .
والفقرجداً يؤدي إلى الإستهتار والإسراف والإستهانة بالرزق من فرط قلته ، وكما يقول المثل : اصرف مافي الجيب يأتيك مافي الغيب .
والشيخوخة جداً ،تؤدي إلى انحلال العقل ، والعودة بالتفكير إلى سذاجة الطفولة وهذيانها ،، والضعف جداً ، يؤدي إلى جبروت الشخصية وقسوتها ، وأصحاب العاهات
جبابرة ، والقصار جداً بهلوانات سيرك ! ، وأدنياء الأصل طموحون طالبون للعُلا ،، وأبناء الوُجهاء عواطلية ،، والإستهتار بشدة يؤدي إلى التوبة والرهبنة ،
والإغراق في اللذة يؤدي إلى النفور من اللذة والإرتداد إلى الدين والصومعة ،، والإستقامة بشدة تؤدي إلى الضيق بالإستقامة ،، وكل شيء يزيد عن حده ينقلب إلى ضده
وجداً جداً هي الجرس الذي يدق لتنقلب الصفات على رأسها ، البركات تصبح لعنات ، والسيئات تصبح حسنات ، والسعادة ليست في أن يكون عندك الكثير جداً ، وإنما السعادة في أن تحب الدنيا والناس ، وأن تواتيك الفرصة لتأخذ بنصيب قليل من خيراتها ،، إن القليل يُحرِّك الشهية ، بينما الكثير يُميتُها ، وبلا شهية لا وجود للسعادة .
القليل يحفز على العمل ، وفي العمل ينسى الإنسان نفسه وينسى بحثه عن السعادة وهذا في الواقع منتهى السعادة .
والعمل تشحيم ضروري للعقل والقلب والمفاصل ، وبدون العمل تصدأ المفاصل ، ويتعفن القلب وينطفئ العقل ، وينخر سوس الفراغ والبطالة في المخ ، فتبدأ سلسلة من الأوجاع يعرفها أفراد الطبقة الراقية ، ويعرفها أطباء الطبقة الراقية .. ولذلك أعتقد أن أسعد الطبقات هي الطبقة المتوسطة ، لأنها الطبقة التي تملك القليل من كل شيء ، فهي ليست مُعدمة مُفلسة كالطبقة الدنيا ، وليست مُتخمة كالطبقة الراقية ، ولهذا فهي الطبقة التي تملك الدوافع ، والآمال ، والمطامع ، والمُثل العليا، والأخلاق
والإمكانيات ،، وهي لهذا ، الطبقة التي يخرج منها العلماء والفنانون والعباقرة ، والزعماء والأنبياء .
ومن فضائل الوسطية أنها تضغط الطبقات وتذيبها في عجينة متوسطة خصبة ، وتشغل جميع الأيدي بالعمل ،،
لهذا فأنا أشعر بالسعادة ، لأني من هذه الطبقة المتوسطة ، وعندي القليل من كل كل شيء ، وهذا معناه أن عندي الكثير من (الدوافع) ،، والدوافع هي الحياة ، إنها الرصيد الذهبي لكل المكاسب ، إنها المتجمد في خزينة كل انسان ،، إنها المتجمد الذي نفك منه كل يوم الرغبات التي نعيش بها ، ونحن نعود فنفك هذه الرغبات إلى خبطات مادية ، وفرص نكسبها ونخسرها ،وهذه الخبطات هي العملة الورق ، أما الرصيد الحقيقي فهو الدوافع .
الدوافع في قلوبنا هي حرارة حياتنا الحقيقية ، وهي الرصيد الذي يكون به تقييم سعادتنا ، لا تسألني هل عندك صحة ، هل عندك ثروة ، هل عندك شهادة ، هل عندك فرصة ، هل عندك أملاك ، أسألني سؤالا واحدا ، هل عندك( دوافع )؟ ،، فهذا أنا وهذه حقيقتي التي بها تعرف حاضري ومستقبلي ومصيري وقيمتي ووزني ، وكل منا يوزن بقدر دوافعه ،وإرادته ، وعزمه وإصراره وقواه الحافزة .
إن الذي يملك من الدوافع مثل الماكينة قوة مائة حصان أو العربة ستة سلندر ، أما الذي يفتقر إلي الدوافع ، ويمتلك كثرة من وسائل الترف ووفرة من الصحة والعمر فهو حتى ولو كان مليونيرا لا يزيد عن ماكينة ضعيفة قوتها الدافعة اتنين حصان ،، الدوافع هي الترجمة الحرفية لكلمة ( روح ) عندك دوافع معناها عندك روح ، معناها عندك أمل ، طموح ، حب ، شغف ، شهية ،رغبة ،كل وسائل السعادة .. أدعو الله لقارئ سطوري هذه أن يمنحه حياة متوسطة ويعطيه القليل من كل شيء ، وهي دعوة طيبة ودعوة نصوحة مخلصة لوجه الخير والحب ، جدتي لم تكن تفهم الفلسفة ولكنها كانت تملك فطرة نقية تفهم معها كل هذا الكلام دون أن تقرأه ،وكانت تطلق عليه اسماً بسيطاً فصيحاً مُعبِّراً هو : ( الستر ) والستر معناه في القاموس الشعبي ، القليل من كل شيء والكثير من الروح .ولنا لقاء

هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]