تحقيقات وتقارير

السودان والجنوب . . باب موارب للحل

[JUSTIFY]بعد فترة طويلة من الجدل والحذر والتردد والمراوحة، ذهب سلفا كير رئيس دولة السودان الجنوبي إلى الخرطوم، وأوقف زحف مجموعة من السيناريوهات القاتمة التي خيمت سحبها على سماء العلاقة بين جوبا والخرطوم خلال الأسابيع الماضية، ووصل بعضها إلى درجة عدم استبعاد استئناف المواجهة العسكرية مباشرة مرة أخرى، وتجاوز مرحلة المناوشات والمناكفات التي يقوم بها كل طرف ضد غريمه، وتخطى عملية الحرب بالوكالة المستعرة التي تدور رحاها بينهما، من خلال ميليشيات ومتمردين ينشطون على الجانبين، وعندما يوقف ذهاب سلفا كير تصاعد الدخان ونيرانه، تصبح زيارة ناجحة بامتياز حتى الآن، وسيتوقف استمرار النجاح من عدمه، على وفاء كل طرف بالتعهدات والالتزامات التي قطعها على نفسه .

الناظر من بعيد لنتائج زيارة سلفا كير للخرطوم يوم 3 سبتمبر/أيلول الماضي، سيعتقد للوهلة الأولى أنها أغلقت أغلبية القضايا والملفات الشائكة، وطوت تماماً الصفحات السوداء التي أعاقت تطوير العلاقات بين البلدين، فوفقاً للبيان المشترك الصادر عن القمة التي عقدها الرئيسان عمر البشير وسلفا كير ليوم واحد، فإن الجانبين اتفقا على فتح الحدود والمعابر وإنشاء مؤسسات وآليات انتقالية في منطقة أبيي، قبل حسم موقفها النهائي، بصورة تمهد الطريق لحسم النزاع بين الطرفين، والأهم أنه تم الاتفاق على استمرار تدفق نفط الجنوب من خلال أنابيب الشمال، وترسيم الحدود المتفق عليها، وإحالة النقاط الخلافية إلى لجنة الوساطة الأفريقية التي لا تتجاوز نسبة ال20%، ويمكن القول باختصار جرى التفاهم على تنفيذ جميع الاتفاقيات الموقعة وتنشيط عمل اللجان المشتركة، بالتالي لم يعد (ظاهرياً على الأقل) هناك مشكلة تعكر صفو العلاقات، بل بالعكس، شاعت أجواء من التفاؤل، تشي في محصلتها بقرب التخلص من الشوائب والزوائد التي حالت دون تقارب البلدين طوال الفترة الماضية، وهو ما يؤكد الأهمية التي تحتلها لقاءات القمة في قاموس الدولتين، وقدرتها على إذابة الجليد المتراكم .

التفاؤل بحذر

لكن الخبرة العملية علمتنا ضبط مشاعرنا عند تقدير النتائج التي تتمخض عن لقاءات القمة، وعدم الإفراط في التفاؤل، لأن الرئيسين عقدا ثمانية لقاءات على مدار العامين الماضيين، وفي كل لقاء كان يتم الحديث عن انتهاء عصر الخلافات، وإغلاق باب المناوشات وسد النوافذ التي تدخل منها الرياح، ثم سرعان ما تعود الخصال السيئة إلى الواجهة، بصورة قد تكون أشد ضراوة، وقبل أن يجف الحبر الذي وُقعت به، وتتلاشى الانطباعات الإيجابية التي سادت في كثير من الأوساط السياسية، وربما لن تختلف نتائج القمة الأخيرة عن سابقاتها، خاصة أن هناك جملة من الملفات أوحى الطرفان بأنهما تجاوزا عثراتها، في حين لا تزال الآثار السلبية باقية، حتى لو كانت خافية، وربما تسببت الثقة التي أفرط فيها كل جانب حيال الآخر في تواريها، وهذا لا يعني انتفاء وجودها، فهي قابلة لأن تنفجر في أي لحظة، حيث لم يتم علاجها بصورة كاملة، وبعضها مر عليه الرئيسان مرور الكرام، خشية أن يؤدي إلى تعكير الصفو الذي أراده البشير وسلفا كير لقمة الخرطوم .

هنا يمكن التوقف عند عدد من الملفات الأساسية، تجاهلت القمة علاجها من جذورها، وتعامل معها الرئيسان بالطريقة ذاتها التي تعاملا من قبل مع قمم فائتة، وعند أول اختبار لعمق العلاقات، يفشل كلاهما في ضبط النفس، ويعود إلى السيرة الأولى من الخلافات والاتهامات والتراشقات، فملف أبيي سيظل هو الأشد توتراً، ومع أن القمة تغافلت الوقوف عنده بتركيز وتجاوزت الوقوف عند مقاطعه الحرجة، خوفاً من تداعياته، وفهم كل طرف ما يريده ويخدم مصالحه، إلا أنه لا يزال كما هو دون أن يتزحزح قيد أنملة، فالموقف المحتدم قبيل القمة أشار إلى تباعد المسافات، فجوبا أخذت ترتيباتها بالتنسيق والتعاون مع لجنة الوساطة الإفريقية لإجراء الاستفتاء على مصير أبيي في شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وهو ما رفضته الخرطوم، وانتهت القمة دون توافق على ترتيبات جديدة، ما يعني أن المشكلة ستتفجر الشهر المقبل، إذا أصر كل طرف على موقفه، لاسيما أن المسألة تجذر فيها البُعد القبلي، عقب مقتل كوال مجوك زعيم قبيلة الدينكا نقوق في شهر مايو/آيار الماضي على أيدى عناصر من قبيلة المسيرية .

يترافق مع هذا الملف، ملف الحدود الساخنة، فالكلام النظري حول تنفيذ الاتفاقيات، لن يغني أو يسمن من جوع، على ضوء تجارب التعامل السابق، فسياسة الترحيل أو المسكنات لم تنه خلافاً سودانياً على الإطلاق، ومن يدقق النظر سيجد أن جميع الخلافات ليست وليدة اليوم، لكنها وليدة ما قبل انفصال الجنوب، ولا تزال مستمرة على حالها، وأخفقت التفاهمات والمساومات والمناورات في تحريكها من مربع الجمود الذي تعيش داخلها، وعندما تتحرك بفعل الضغوط والتدخلات، تدور باتجاه الخلف، بكلام آخر تزداد توتراً، بعد أن تهدأ نشوة لقاء القمة الذي تحول في أجندة الرئيسين إلى هدف بحد ذاته، ولعل زيارة البشير لجوبا قبل بضعة أشهر، صورها البعض على أنها نصراً كبيراً وبداية لفتح صفحة بيضاء، وبعد زوال تأثيراتها السياسية، عاد الجانبان إلى سابق عهدهما من المناوشات، وتحولت إلى ما يشبه الإدمان في القاموس السوداني الذي يبدو أنه خلا من كلمات، هدوء وأمن واستقرار، واحتفظ بمفردات، توتر وقلق وحرب ومتمردون، وما إلى ذلك من جمل وعبارات تشير في محتواها إلى غلبة التصعيد على حساب الوئام .

ورقة المتمردين الشائكة

من جهة ثانية، غاب ملف المتمردين، وكل ما رشح حوله لا يبعد كثيراً عن الكلمات الإنشائية، بخصوص رفض التدخل في شؤون الطرف الآخر، وتقديم الأدلة المطلوبة على تورط الجنوب في دعم المتمردين . . الخ، لكن في الحقيقة أن عدم الوقوف عنده بالتفصيل غرضه الخروج بقمة الخرطوم إلى بر الأمان، لأن فتحه بوضوح وشفافية ومصداقية، كان سينكأ جروحاً عميقة، كفيلة بأن تحرج الزعيمين، فالبشير سبق أن ربط تطبيع العلاقات بوقف ما أسماه دعم المتمردين الذين يندرجون تحت لافتة الجبهة الثورية السودانية وتضم، الحركة الشعبية قطاع الشمال، وحركة العدالة والمساواة، وحركة تحرير السودان جناح أركو منى ميناوي، كما أن العمليات المسلحة التي يقوم بها قطاع الشمال في الحركة الشعبية في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، أخذت تقلق القوات الحكومية، وعدم تقديم جوبا الضمانات الكافية لوقفها، حتما سوف يؤدي إلى توتير العلاقات، ويدخل البلدان دوامة العنف التي لم تهدأ فترة طويلة حتى الآن، وكانت إحدى منغصاتها عمليات حرب العصابات التي تقوم بها الحركة الشعبية، والمدعومة من الحركة الأم في الجنوب .

الواقع أن البيئة الداخلية تلعب دوراً مهماً في إقبال كل رئيس على الحوار والسعي للتفاهم مع الآخر، وهي أيضا تساهم بدور كبير في الرفض والإحجام، فعندما تبدو الأمور مستقرة أو حتى شبه مستقرة في الجنوب والشمال يندفع الطرفان نحو الصدام، حيث يعتقد سلفا كير وكذلك البشير، أن الهدوء هنا يمثل شبكة أمان للجبهة الداخلية، ولن يضيره كثيرا التصعيد، طالما أنه سيحقق أهدافا معنوية ورمزية، تصب في صالح تعزيز قوته السياسية، وعندما يواجه كل طرف، وأحيانا الطرفان معا، عواصف أمنية وأعاصير سياسية محلية، يلجأ كلاهما أو أحدهما، إلى الانحناء حتى تمر العواصف والأعاصير، وربما المشهد الراهن هو الأقرب لهذا التوصيف، حيث يتعرض سلفا كير لتحديات دقيقة من قوى مختلفة، يمكن أن تهدد عرشه، جعلته يلجأ قبل نحو ستة أسابيع إلى حل الحكومة وتشكيل أخرى جديدة، وإقالة نائبه رياك مشار، كما بدأ البشير يتعرض لضغوط من معارضيه وعلى مستويات متعددة، فرضت عليه تقليل عدد الجبهات المفتوحة، فلجأ لتسكين جبهة الجنوب، حتى يتفرغ للتعامل مع جبهة الشمال التي تزداد سخونة، وجبهة الغرب التي تزداد اشتعالا .

في كل الأحوال، تنطوي اللقاءات والتفاهمات وحتى الاتفاقيات بين جوبا والخرطوم، على أهداف سياسية واقتصادية عاجلة، تفرض على الرئيسين سلفاكير وعمر البشير اللجوء إليها (القمة) لانتشال كليهما من الغرق، وعندما يتأكدان من النجاة يلجآن إلى الغطس في نهر النيل وتعكير مياهه، ويتكرر المشهد في كل مرة، بالمقدمات والتداعيات، والسلبيات والإيجابيات، حتى حفظنا تفاصيل الصورة قبل أن يتم التقاطها أمام الجماهير .

الخليج الاماراتية
محمد أبو الفضل[/JUSTIFY]