د. عارف عوض الركابي : «جريمة» القول على الله بغير علم
كثر الافتاء في الدين بغير علم، وتساهل الكثيرون في الكلام في مسائل من الشرع دون بينة أو برهان، ولم يعد الخوف من الله جل وعلا من خطورة القول عليه بغير علم عند الكثيرين، وكأنهم لم يقرأوا قول الله تعالى: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ «44» لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ «45» ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ «46» فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ «47» وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ «48» سورة الحاقة.
فالقول على الله بغير علم «جريمة نكراء»، من كثرتها وانتشارها أصبحت لا تستغرب !! أو لا تنكر من الكثيرين !! في المجالس العامة وفي المواصلات.. وفي مكاتب العمل.. وفي الصحف.. وغيرها.. وفي فضاء «الانترنت» حيث ساحات المنتديات والفيس بوك والتويتر وغيرها.. وربما أصبح أشخاص بعينهم لهم نصيب أكبر من هذه الجريمة.. تساعدهم في ذلك سهولة النشر عبر وسائل الإعلام التي يفرح أصحابها بمثل تلك التصريحات «الشاذة»، فصحافي يتحدث عن قضية شرعية لها أدلتها ونصوصها التي لا يحسن قراءتها فضلاً عن المعرفة الصحيحة بمعانيها، و «محلل سياسي» يحلل موقفاً تأريخياً لم يصح ثبوت سنده، فينقش ويزخرف حيث لا يوجد عرش!! وزعيم حزب سياسي يصدر نفسه للكلام في ثوابت من الدين لفتاً للأنظار على غرار «أنا هنا!!!»، يهرف ويناقض أموراً أجمع عليها علماء المسلمين، ويخرج على الناس بين الحين والآخر بـ «تصريحات» شبيهة بتصريحات المسؤولين في شكلها!!، يناقض بها ثوابت شرعية، خاصة قضايا المرأة حيث يرى أن الحديث في هذا الشأن يعطيه من «المنزلة» ما لم يحققه بوسائل أخرى!! ودارس للحقوق يضع نفسه موضع الناقد لمصادر الشريعة وثوابتها وأحكامها، ويحكي عن نفسه رحلة «تيه» يستمر عقوداً من الزمان.. وفي الصحف العجائب!! «قصصي» لا يحسن إلا القصص و«الخرص والتخمين» يتطاول على جناب الأخيار الصحابة الأطهار بما لا يصح أو يثبت.. وآخر يستخدم عقله في إنكار قضايا شرعية ويكفيك من علمه كتابته أن جون قرنق «شهيد»!! ومتلون متقلب تائه في قضايا الدين والدنيا يتحالف مع الجبهة الثورية ويخرج علينا بفتاوى في تحليل الأغاني وتبريرات بشأن «الواقي»!!
إن القول على الله بغير علم «جناية وجريمة خطيرة»، وأدلة بيان أنها جرم عظيم كثيرة، منها قوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ «33» سورة الأعراف. وقد توقفت الملائكة عن القول على الله بغير علم وتأدبت مع ربها وخالقها قال الله تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ «31» قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ «32»سورة البقرة.ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام حذر أمته بالقول والعمل من ذلك، فقد كان ينتظر الوحي حتى ينزل عليه في مسائل كثيرة وآيات كثيرة في كتاب الله ابتدأت بقول الله تعالى: «يسئلونك…» وقد أبلغ عليه الصلاة والسلام في التحذير من المفتين بغير علم، من المتساهلين في الكلام في الدين بغير بينة، فقد حذر من الأئمة المضلين ومن علماء السوء، فقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْناسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وجاء في مسند الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ»، وقد سار أهل العلم على مقتضى ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة في هذا الأمر كما هو حالهم في غيره، وعظموا هذه النصوص والتزموا بها، وبينوا صفات من يحق له أن يتكلم في هذا الدين، وبينوا مَنْ الذي يحق له أن يتحدث في الأحكام الشرعية وفي الحلال والحرام، وكلامهم في ذلك مشهور وكثير واكتفي بذكر إشارات تدل عليه:
جاء في مقدمة الإمام مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ لصحيحه عن التابعي الجليل محمد بن سيرين ـ رحمه الله تعالى ـ أنه قال: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ». وثبت هذا الكلام عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله، ذكره القاضي عياض في «ترتيب المدارك».
ويقول الإمام الشاطبي المالكي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه «الموافقات»: «فإذا تقرر هذا فلا يؤخذ ـ يعني العلم ـ إلا ممن تحقق به، وهذا أيضاً واضح في نفسه، وهو أيضاً متفق عليه بين العقلاء، إذ من شروطهم في العالم بأي علم اتفق أن يكون عارفاً بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم، قادراً على التعبير عن مقصوده فيه، عارفاً بما يلزم عنه، قائماً على دفع الشبه الواردة عليه فيه، فإذا نظرنا إلى ما اشترطوه وعرضنا أئمة السلف الصالح في العلوم الشرعية وجدناهم قد اتصفوا بها على الكمال».
هكذا يوصي الأئمةُ المسلمين عموماً بهذه الوصية العظيمة المهمة في قولهم: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَه» أي: فانظروا إلى من هو أهل لذلك قد تحقق به وأخذ هذا العلم عن الثقات في عقيدتهم ودينهم وسيرتهم فيؤخذ عنه.
قال الإمام مالك رحمه الله كما في «ترتيب المدارك»: «ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام في الفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غداً لقللوا من هذا، وإن عمر بن الخطاب وعلياً وعلقمة وخيار الصحابة، كانت ترد عليهم المسائل، وهم خير القرون، الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويسألون حينئذٍ ثم يفتون فيها، وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا، فبقدر ذلك يفتح من العلم…».
والواجب على المستفتي والسائل والمتلقي أن يحتاط لدينه فلا يأخذه من أهل الشبهات أو الأهواء أو البدع والضلال.
قبل فترة انشغل الناس ونشرت الصحف قضية شاب «صاحب ركشة» ادعى أنه طبيب ومارس مهنة الطب سنوات في مستشفى بإحدى الولايات !! ومع أنه لم يسجل عليه ضرر على من تطببّ فيهم !! ومع ذلك صدر الحكم عليه وتابعت الصحف القضية من أولها حتى نهايتها، حيث أدخل نفسه في غير تخصصه ومارس مهنة لم يؤهل لها.. فهل سيتحقق في يوم ما أن تضبط قضية الفتوى والتحدث في دين الله في مجتمعنا خاصة في الإعلام والوسائل العامة؟! وهل ستتم محاسبة المتصدين لها من غير أهلها؟! علماً بأن علماء المسلمين على اتفاق أن: حفظ الدين يقدم على حفظ النفس والعقل والنسل والعرض والمال!!
صحيفة الإنتباهة
ع.ش