هنادي محمد عبد المجيد
مدى تأثير اللغة على الرأي العام
أطلق عالم الإجتماع الفرنسي ( إيميل دوركايم ) على الرأي العام تعريفه الشهير بأنه ” عقل الجماعة ” أو ” الضمير الجمعي ” ، كما قرر علماء الإجتماع أن الرأي العام من نتاج العقل الجماعي ،، وقد عرّف البعض مضمون عقل الجماعة : ” بأنه نظام خلقي ينشأ نتيجة تفاعل نشاط الأفراد وتبادل العلاقات الإجتماعية فيما بينهم ” وفي النهاية يصبح هذا العقل الجماعي هو القوة المسيطرة لأعماله الجماعية وتصرفاتها ، بحيث أنه عندما يقوم الأفراد بأي نشاط اجتماعي ، فإنهم يضعون في اعتبارهم أهداف المجتمع وأغراضه ، وبذلك تندمج ذواتهم الفردية في الجماعة التي ينتمون إليها ، ويتحدد سلوكهم وتُضبط علاقاتهم وفقا للعقل الجمعي .
والرأي العام هو المنبع الذي تصدر منه أحكام الجماهير ، كما أنه القوة التي يسعى الإعلام إلى التأثير فيها ، ومع أن الرأي العام وجود معنوي لا نراه ، فإن ذلك لا يُنقص
شيئا من قوته ، شأنه شأن الضغط الجوي الذي نراه ولكنه موجود بمعدلات محددة .
الرأي العام يمثل محصلة الآراء والأحكام السائدة في المجتمع ، وهذه الظاهرة تكتسب صفة الإستقرار وتختلف في وضوحها ودلالاتها في عقول الأفراد ، ولكنها تصدر عن اتفاق متبادل بين غالبيتهم رغم اختلافهم في مدى إدراكهم لمفهومها ومبلغ تحقيقها لنفعهم العام ومصلحتهم المشتركة .
الإجتماع العام أو الرأي السائد يكون في أغلب الأحوال مبنياً على العُرف والتقاليد والعادات ، أما الرأي العام فأساسه الحوار والنقاش واحتكاك الأفكار وتفاعل الآراء ، والرأي السائد أو الرأي الإجتماعي يكون مبنياً على تقاليد موروثة ، أو على عادات كانت آراء في الماضي ولكنها أصبحت كالبديهيات المُسلّم بها .
والرأي العام من المصطلحات الحديثة التي لم تُعرف إلا في أواخر القرن الثامن عشر ، إبّان حرب الإستقلال الأمريكية والثورة الفرنسية ، فلا يمكن القول بأن الحضارات القديمة كانت خالية من المفاهيم المشابهة للرأي العام .
* اللغة ليست من صنع الأفراد كما هو الحال في الرأي العام ، وإنما تخلقها طبيعة الإجتماع البشري ، وتنبعث من تلقاء نفسها عن حياة الجماعات ومقتضيات العمران .
واللغة في كل مجتمع نظام عام يشترك الأفراد في اتباعه ويتخذونه أساساً للتعبير عما يجول بخواطرهم وفي تفاهمهم بعضهم مع بعض ، فاللغة ليست من الأمور التي يصنعها فرد معين أو أفراد معينون ، وإنما تخلقها طبيعة الإجتماع وتنبعث عن الحياة الجمعية ، وما تقتضيه هذه الحياة من تعبير عن الخواطر وتبادل الأفكار ، وكل فرد ينشأ يجد بين يديه نظاماً لغوياً يسير عليه مجتمعه فيتلقاه عنه بطريق التعلُّم والتقليد .
واللغة من الأمور التي يرى كل فرد نفسه مضطراً إلى الخضوع لما ترسمه ، وكل خروج عن نظامها ولو كان عن خطأ أو جهل يلقى من الرأي العام مقاومة ، تكفل رد الأمور إلى نصابها الصحيح وتأخذ المُخالف ببعض أنواع الجزاء .
إذن اللغة ظاهرة إجتماعية ، وهي بوصفها هذا تؤلف أهم عناصر تكوين الرأي العام الذي يسعى الإعلام بوسائله المختلفة إلى التأثير فيه ، إذن هناك علاقة قوية بين اللغة والرأي العام .
إذا عرّفنا الحضارة أو الثقافة كما يُفضل علماء الإنثربولوجي تسميتها على أنها : ” حصيلة النشاط البشري خلال تاريخه الطويل ، والتي تتمثل فيما أنتجه عقل الإنسان الخالق المبدع من فنون وآداب وآلات وأدوات وصناعات وأخلاق وعادات وقيم ، وفيم حققه من مهارات في كل هذه الميادين ، لظهر لنا أن الخاصية الرئيسية التي تميز الحضارة هي خاصية الإستمرار ، والقدرة على الإنتقال من جيل لآخر ، بحيث يأخذ كل جيل عمن سبقوه ويضيف إلى ما أخذه منهم ، ثم ينقلها بعد ذلك للأجيال التي تأتي بعده ، فخاصية ( التراكم ) هي التي تجعل هناك فارقا أساسياً بين الحضارة الإنسانية ، ومختلف أنواع النشاط التي تصادفها عند الجماعات الحيوانية الأخرى ، وأداة هذا التراكم هي ( اللغة ) ، فعن طريق اللغة والتفكير تكون خبرات الإنسان وتجاربه مستمرة ومتصلة ، وهذا يساعد بالتالي على تطويرها وتنميتها .
فاللغة كغيرها من مظاهر الثقافة تتميز بخاصية التراكم والإستمرار والنمو والقدرة على الإنتقال ،وهي ذلك الجزء من الثقافة أو الحضارة الذي يساعد أكثر من غيره على التعلم وزيادة الخبرة والمشاركة في خبرات الآخرين ، سواء الخبرات الماضية أو الحالية ، أي أنها العامل الأساسي في عملية التراكم التي هي أهم عنصر في الحضارة الإنسانية ،، إذن اللغة تلعب دوراً أساسياً وفاعلاً في صناعة و توجيه وتكوين وتشكيل الرأي العام .
هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]