رأي ومقالات

د. عارف عوض الركابي : المناصب تكليف مخيف.. وليست بتشريف


[JUSTIFY]حديث الناس في المجالس العامة والخاصة هذه الأيام عن التعيين الوزاري الجديد دفعني لأن أعيد نشر هذا المقال وأضع ذلك في حلقتين، فأقول: ما رأيته من حال «كثيرين» و«كثيرات» قبل التعيينات وإسناد الوزارات أو ولاية الولايات أو إدارة الجامعات أو المنظمات والإدارات وغيرها من المؤسسات العامة والخاصة، حملني على كتابة هذا المقال، وفي عدة مناسبات سابقة حاولت الكتابة فيه لكن توقعي لأن يختلف الأمر في المستقبل حال بيني وبين ذلك، ولكني لما رأيت أن الأمر بالعكس تماماً، إذ يتزايد الحرص من «كثيرين» و«كثيرات»على تقلد للمناصب، رأيت أن أسطر هذه الكلمات من باب النصح العام في هذا الشأن العظيم.

حال الكثيرين يحكي لنا: أن بعضهم يبذل كل ما لديه لأجل أن يتم تعيينه في منصب من هذه المناصب وأمثالها!! يطلبها بطريق مباشر أو غير مباشر، والوسائل التي تستخدم في ذلك كثيرة ومتنوعة!! وبعضهم يغضب إن لم يتم تعيينه في المنصب الذي اجتهد كثيراً للظفر به!! وربما استقبل المعزين له لحلول هذه المصيبة به، وقد يأتي إليه من يطيبون خاطره ويخففون من آلامه!! البعض يفرح فرحاً شديداً إذا صدر أمر تعيينه، وربما ذبح الذبائح ودعا الناس ليهنئوه بهذا المنصب!! وقد يجعل يوماً محدداً ليستقبل فيه المهنئين!! وقد يخصص مكاناً لاستقبال ما يتكرم به بعض المهنئين من هدايا عينية من المنقولات!! كجوالات السكر ونفائس الضأن والماعز لبعض الذين عينوا في بعض الوظائف والإدارات!! وربما غضب وعاتب ووجد في نفسه تجاه من لم يهنئوه أو يشاركوه الفرحة!! وبنى على عدم حضورهم ومشاركتهم الظنون والظنون!! أحزاب ترفض وتتذمر لقلة ما أعطوها من الوزارات، وأخرى تطالب بالمزيد!! فالمناصب باتت عندهم غايات وليست وسائل! هذا واقع «كثيرين» و«كثيرات»!! وربما أصبح هذا الحال واقعاً مشاهداً وعرفاً مستقراً ليس بمستغرب عند الكثيرين!!

إن تقلد الشخص لهذه المناصب وأمثالها، يوجب عليه أداء حقوق عظيمة، ويوجب عليه القيام بما كلف به على الوجه الذي يجب القيام به دون التقصير فيه، ويوجب عليه الحرص على السلامة من تبعاته، لذا كان السؤال الذي يجب أن يكون ملازماً لكل شخص يقدم على هذه المناصب بعرض نفسه للتعيين أو قبوله للتعيين أن يسأل نفسه: هل هو أهلٌ لذلك؟! ويتضمن هذا السؤال العام في طياته تساؤلات عديدة منها: هل بما يعلم من حاله أنه يمكنه القيام التام بما وجب عليه من مسؤوليات؟! وهل أدرك ما في هذه المناصب من فتن؟! وهل بما يعلم من حاله أنه سيأمن من فتن هذه المناصب؟! وهل نظر في أحوال غيره ممن هم أحق أجدر بهذه المناصب وقارن بحاله؟!

عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي قَالَ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْىٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» رواه مسلم. فهل من يتنافسون في تقلد هذه المناصب ويفرحون بها وقفوا على معنى هذا الحديث العظيم؟! قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: «هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية، وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلاً لها أو كان أهلاً ولم يعدل فيها فيخزيه الله تعالى يوم القيامة ويفضحه ويندم على ما فرط، وأما من كان أهلاً للولاية وعدل فيها فله فضل عظيم تظاهرت به الأحاديث الصحيحة كحديث سبعة يظلهم الله، والحديث المذكور هنا عقب هذا أن المقسطين على منابر من نور وغير ذلك وإجماع المسلمين منعقد عليه ومع هذا فلكثرة الخطر فيها حذره صلى الله عليه و سلم منها، وكذا حذر العلماء وامتنع منها خلائق من السلف وصبروا على الأذى حين امتنعوا» أ. هـ.

ورحم الله الإمام النووي فقد أجاد على عادته بهذه العبارات الموجزات، وقد نقلها عنه بعض العلماء وعلى رأسهم الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه على صحيح البخاري «فتح الباري».

فهل أنت يا صاحب الوزارة أو الولاية أو أمثالهما أهل للمنصب الذي عينت فيه؟! وهل ستقوم بأداء ما وجب عليك من مسؤوليات؟! وهل قد أمنت فتنة المنصب الذي جلست على كرسيّه؟! وما قاله النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق لأبي ذر يوجب على كل حاكم أن يعين في هذه المناصب وأمثالها أهل الكفاءة، والمؤهلين «بحق» فيها، وقد ورد ملخص صفات الأهلية لذلك في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال الله تعالى: «إن خير من استأجرت القوي الأمين»، فأبو ذر صحابي كريم وجليل وله مناقبه العظيمة الثابتة وهو من أئمة الزهد في الدنيا والبعد عن زخرفها، والإقبال على ما عند الله، رضي الله عنه وأرضاه، لكن الأمر حكم فيه النبي الكريم بهذا الحكم، فالأمر لا يخضع لمجاملة أو تطييب خاطر، وإنما إسناد الأمر لمن يقوم به على الوجه الأفضل، والناس يتفاوتون في صفاتهم وأحوالهم، وهذا منهج وضعه النبي عليه الصلاة والسلام الحريص على أمته لتعمل به أمته، رعاة ورعية، حكاماً ومحكومين، وبه تحفظ الحقوق، وتؤدى المسؤوليات، فلا يقدم الشخص نفسه للمنصب الذي لا تتحقق فيه شروطه وأوصافه، كما أن الحاكم لا يعين من لا يتحقق فيه ذلك.

فليتدبر الخائف على آخرته ومصيره قول الصادق الأمين: «وإنها يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْىٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِى عَلَيْهِ فِيهَا»، وليبحث عن طريق نجاته، وهذا هو المستقبل الحقيقي إن أدركوا وعلموا.

صحيفة الإنتباهة
ع.ش[/JUSTIFY]