[JUSTIFY]
لم يكن هنالك من يعلم بما كان يدور في أذهان قادة المنظمة الدولية في المبني الزجاجي الأزرق الأنيق في نيويورك، وهم يواصلون الضغط على الحكومة في السودان لكي تقبل بوجود قوات دولية لحفظ السلام في إقليم دارفور، فقد كان الإقليم في العام 2005، قليل الاضطراب، ولم تكن النزاعات فيه تستحق كل تلك الضجة، كما أن الأمين العام للأمم المتحدة وقتها (كوفي أنان) كانت تصله تقارير من جهات ومنظمات عدة، تشير إلى أن النزاع في دارفور هو نزاع بسبب الموارد، الأرض والمياه ما بين قبائل تحترف الزراعة، وأخرى تمتهن الرعي، وتأثر الإثنان بعوامل بيئية بسبب: موجات الجفاف والتصحر التي ضربت المنطقة بأسرها منذ ثمانينات القرن الماضي، وامتدت آثارها لسنوات وأورثت إقليم دارفور مفارقات متفاوتة، كان من المحتم أن تفضي إلى مواجهات قبلية ونزاعات لا تنتهي.
عوامل النزاع:
عنان كان وبحكم أمانته العامة للمنظمة الدولية يرقد على تل من مسببات النزاع بحسبانه نزاعاً داخلياً وصراعاً حول الموارد تحكمه أعراف وتقاليد الإقليم، ولكن وعلى الرغم من ذلك لم يبذل الرجل بصرف النظر عن أسباب ذلك الجهد المطلوب لتفادي الدخول في تجربة حفظ سلام كالتجربة التي نحن بصددها، عالية الكلفة، قليلة الأثر، لا يعرف متى تنقضي، وماذا استفاد المجتمع الدولي من ورائها، وعلى الرغم من أن الأمين العام الحالي (بان كي مون) الذي خل أنان في أمانة المنظمة الدولية أقر في أحد بأنه قبل نحو من عامين بأصل الأزمة والصراع في دارفور ورده إلى العوامل البيئية، واشتداد أوار النزاع القبلي والاختلال في الموارد، إلا أن الأوان بالطبع كان قد فات تماماً، بعدما جرت عملية التسليم والتسلم في العام 2007م بين القوات الأفريقية التي دفع بها الاتحاد الأفريقي وقضت حتى ذلك الحين حوالي (3) أعوام، وما بين قوات اصطلح على تسميتها بالبعثة الأممية الأفريقية المشتركة (اليوناميد)، تجربة القوات الأفريقية على قلتها كانت تحمل مؤشرات لم تضعها المنظمة الدولية في حسبانها، فهي رغم شح إمكانياتها ورغم الإشكالات الثقافية واللغوية هنا وهناك، إلا أنها استمرت لثلاثة أعوام، ولكن الأمر الملاحظ أنها لم تقدم ولم تؤخر في استتباب الأمن في الإقليم، ويبدو أن أذهان مسؤولي الأمم المتحدة وقتها كانت قد انصرفت إلى أنه كلما كان العدد ضخماً وكبيراً، والآليات كبيرة والأمم المتحدة هي الممول الرئيسي للعملية كلما أعطاها فاعلية وربما لهذا السبب جرى الدفع بأكبر بعثة حفظ سلام على نطاق العالم إلى إقليم دارفور، بعدد وصل إلى حوالي (26) ألف جندي وعنصر شرطة وجيش جرار من الموظفين المدنيين ومركبات متوسطة وصغيرة وعدد قليل للغاية من المروحيات التي لا تتناسب مع عدد البعثة ولا تلبي احتياجاتها الأمنية الفعلية، وسيظل السؤال هنا قائماً ومتصلاً حول مرامي أولئك الذين قاموا بالدفع بهذه القوات بكلفه مالية عالية إلى إقليم دارفور، وهي تعوزها الآليات المطلوبة والطائرات والمروحيات المعينة على سرعة الحركة ومعالجة المواقف.
مشهد تراجيدي:-
لقد قضت قوات اليوناميد حتى الآن أكثر من (6) سنوات في إقليم دارفور وهي بالكاد تحاول حماية عناصرها وموظفيها، ولم يحدث مطلقاً حي الآن، أن حققت ولو نسبة%1 بلا مبالغة من مهمتها الرئيسية المتمثلة في حماية المدنيين، بل أن اليوناميد وفي مشهد تراجيدي غريب فشلت في أحدي المرات في حماية عدد من النازحين المراد إيصالهم إلى مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور لحضور مؤتمر خاص بالنازحين كان أمراً يشبه أفلام الاكشن حين تعرضت لكمين (مفاجئ) وقام عدد من مسلحي حركات دارفور باختطاف النازحين دون أن تفعل قوات اليوناميد المصاحبة لهم ادني شيء، ولو على سبيل المحاولة وتبرئة الذمة، فما عدا ذلك فإن اليوناميد قضت سنواتها العجاف هذه وهي تحمي نفسها وحتى على مستوي هذه الحماية الذاتية يصعب القول إنها نجحت في ذلك رغم ضخامة عددها وتمتعها بأسلحة جيدة رغم كونها خفيفة وحيازتها لوسائل اتصال حديثة بالإمكان أن تعينها على تدبر أمنها الشخصي.والشيء الغريب أن وجود اليوناميد غير المجدي وغير المفيد فلا هي أثرت في خفض وتيرة العنف ولا زيادته، إلى أنه جرى تخفيض القليل منها العام الفائت 2012م بعدما تلقت الأمم المتحدة تقارير من قيادة اليوناميد ورئيس البعثة أن وتيرة العنف قد خفت صوتها في الإقليم، التقارير بالطبع لم تشر لا صراحة ولا ضمناً أن وتيرة العنف قد خفت صوتها نتيجة للأداء الجيد للبعثة ومع ذلك فإن الأمم المتحدة عملت على تخفيض البعثة بنسبة يمكن القول إنها تصل إلى الربع %25.
استثمار سياسي:
وحتى بعد التخفيض لم تسأل الأمم المتحدة نفسها عما إذا كانت البعثة بأكملها فاعلة ومن الأفضل التجديد لها واستمرارها أم لا، صحيح أن القرار ألأممي في هذا المنحي هو في النهاية قرار مجلس الأمن، وعلى وجه الخصوص قرار الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بالدرجة الأولي والتي من المؤكد تستثمر في العملية استثماراً سياسياً مغايراً تماماً لفكرة حفظ السلام المنشودة وصحيح أيضاً أن القرار ألأممي الذي يحمل الرقم (1769) والداعي لضرورة ابتعاث هذه البعثة إلى السودان هو في جوهره (قرار سياسي) كان كل تركيز الخمسة الكبار ربما باستثناء الصين هو الضغط على السيادة الوطنية للسودان إلى أقصي حد في إطار محاولات الاحتواء الجارية بهذا الصدد من قبل الولايات المتحدة وحليفاتها.والشيء الملفت هنا أن السودان حين كان يرفض وبشدة ابتعاث هذه البعثة واستجلاب قوات دولية إلى أرضه كان يؤكد للكافة أنه على ثقة أنها لن تكون مجدية، وأنها سوف تكلف المجتمع الدولي أموالاً طائلة وان الصراع في دارفور نفسه لم يبلغ ألمدي الذي يحتاج معه إلى إجراء مهول كهذا، ولكن أحداً لم يكن في ذلك الوقت ليستمع إلى ما يقوله السودان، في ظل شعور دولي عام بفعل الرعاية الإعلامية الواسعة النطاق أن إقليم دارفور يعيش مأساة لا تقل عن ماسي ومجازر رواندا
تكلفة ضخمة:
وكانت الولايات المتحدة الأكثر تشدداً في الأمر بالتوازي مع تشددها في إحالة الأوضاع في إقليم دارفور إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي بموجب القرار الدولي (1593) .
الولايات المتحدة كان تعتقد وربما إلى عهد قريب أنها قد أحكمت سيطرتها على السودان من كل المنافذ والجوانب، قوات دولية مهولة العدد في واحدة من أكبر أقاليمه، ملاحقة جنائية دولية، عقوبات اقتصادية أحادية الجانب تثقل ظهر البلاد الاقتصادي وربما تقصمه تماماً.
الآن وضح جلياً أن تجربة السنوات الست للبعثة الأممية المشتركة في حفظ السلام في دارفور تجربة تراوح مكانها، بدليل أن العنف القبلي والذي هو أساس الصراع عاد من جديد واشتعل في أرجاء عديدة من الإقليم وان الصراع بين الحكومة والحركات المسلحة قد انتهي عملياً إذ لم نعد نسمع به إلا نادراً جداً، كما اتضح إن اليوناميد حتى الآن كلفت الخزينة الدولية حوالي (15) مليار دولار كأضخم كلفة دولية في مهمة حفظ سلام يعرفها التاريخ الإنساني ولا يلوح في الأفق إن المهمة ستنقضي أو أن الصراع يحتاج وجود هذه القوات لسنوات قادمات وإذا كانت هذه القوات قد تأثرت كثيراً بظروف وجودها في الإقليم، وسقط من بينها ضحايا واختطف منهم من اختطف، فإن هذا في الواقع لم يصبح بعد عظة ودرساً استفادت منه هذه القوات والتي ما يزال بوسعها إن تقدم تقارير موضوعية إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان دورها قد انتهي وان الأوان قد حان لطي صفحتها ووضع حد لهذه الكلفة الدولي الباهظة الحكومة السودانية من جانبها تدرك ان نجاحها في تحقيق عملية سلمية استناداً على وثيقة الدوحة وضم العديد من الحركات المسلحة إلى الوثيقة والتقليل إلى حد معقول من الأنشطة السالبة بين القبائل ربما يساعد في دفع المنظمة الدولية في غضون أعوام قلائل لإنها مهمة هذه القوات على الرغم من ان وجودها يحدث جرحاً غائراً في خاصرة السيادة الوطنية ولكنه جرح احتملته على مضض.
صحيفة الحرة
[/JUSTIFY]