هنادي محمد عبد المجيد

الحاضر الغائب ( عبدالوهاب المسيري ) 4


الحاضر الغائب ( عبدالوهاب المسيري ) 4
داء التأمل الذي لازم المفكر عبدالوهاب المسيري لم يتركه ولو للحظة بعد ارتباطه بالدكتورة هدى ، إذ بدأ يتساءل : « إذا كان الحب الرومانتيكي يوجد خارج الزمان ولا يعرف التاريخ أو التدافع ، فكيف يمكن للمرء أن يتزوج ( ويدخل الزمان ؟ ) كيف يمكن لمن يحب بهذه الطريقة اللازمنية أن يترك من يحب ويذهب إلى عمله – على سبيل المثال – ؟ ولكني تساءلت أيضا ، كيف يمكن للإنسان في الوقت ذاته أن يتحمل مثل هذه العواطف المشبوبة بشكل يومي ؟ هل يتحمل جهازه العصبي مثل هذا العبئ؟ ولم يوقف عملية التفكير هذه إلا الزواج نفسه ، إذ اكتشفت ميلاد نوع جديد من الحب القادر على التعايش مع الزمن والتاريخ والمجتمع ، فالحب في الزواج يتسم بنوع من الإستمرار ، ساعتها بدأت أفهم مفاهيم مثل : السكينة والمودة والألفة ، وبدأت أعرف أنها تشكل نوعاً من العلاقة العميقة داخل الزمان ، ولكنها مختلفة عن الحب الرومانتيكي اللازمني .
خضعت حياتي هي الأخرى للتأمل ، أذكر أنني بعد أن تزوجت حان الوقت لأخذ صورة الزفاف التقليدية ، فجلستُ أتأمل في هذا ” الفعل البورجوازي” أن أرتدي بذلة الزفاف وترتدي زوجتي فستان العرس ونذهب معاً إلي الأستديو ونتصنع الإبتسامة والسعادة ليلتقط لنا المصور صورة رسمية ! واستمرت حالة التأمل عدة سنوات ولم أقف هذه الوقفة الرسمية إلا بعد أن عرفت أن زوجتي قد حملت ، فقررت أن أسلم أمري إلى الله على أن أستمر في التأمل فيما بعد !» أجمل ما يميز قراءة السير الذاتية
أنك تستطيع أن تَسْبِر أغوار كاتبها وتتأمل مشاعره ومكامن أفكاره ، فتكتشف الفرق بينك وبينه ، كيف يفكر ، كيف يشعر ، ماهي الحياة بالنسبة له ، فتكتشف كم هي مُقننة حياة مثل حياة الدكتور عبد الوهاب المسيري ، قرأت فيما قرأت أن الشخصيات التي يصيبها داء التأمل هذا تنطوي على عبقرية من نوع خاص ،، لنر ماهي النتيجة التي خرج بها من تجربة الزواج : « من خلال تأملاتي في تجاربي وتجارب الآخرين ، أصبح عندي رؤية ومفهوم للزواج ، فكنت دائما أخبر نفسي وغيري أن السعادة لا تهبط هكذا من السماء ، وإنما هي مثل العمل الفني ، لابد أن يكد المرء ويتعب في صياغته وصنعه ، والزواج مثل أي شيئ إنساني مُركّب يحتوي على امكانيات سلبية وايجابية ، ولا يمكن فصل الواحد عن الآخر ، ويعرف أن محاسنه مرتبطة تمام الإرتباط بمثالبه .. كما طوّرت مفهوم إعادة الزواج من نفس الزوجة ، إذ تتغير الظروف والأوضاع وتتغير الشخصية والتوقعات فيُعاد النظر في أُسس العلاقة ويُعاد تشكيلها بما يتفق مع الرؤية الجديدة . وأزعم أنني تزوجت من زوجتي ثلاث مرات ، المرة الأولى التقليدية ، والثانية بعد حصولي على الدكتوراه ، والثالثة بعد حصولها هي على الدكتوراه ، ولعل مفهوم إعادة الزواج من نفس الزوجة قد يحل بعض المشكلات التي يقابلها الناس في زيجاتهم ، إذ يتصور كل طرف في العلاقة الزوجية أن الآخر نمط محدد لا يتغير ، ومن ثم فالتوقعات والأحزان والأفراح لا تتغير ، وهو تصور غير انساني ، فثمة قدر من الثبات ، ولكن ثمة قدرا من التغيُّر أيضا ، ولا بُد أن يأخذ الإنسان كل شيء في الحسبان .
أما الجانب المظلم للتأمل فهو يفصلني عن الواقع ويجعلني أعيش في عالمي الفكري أو الأسطوري الخاص ، فيظهر في تلك الواقعة : كنت في الولايات المتحدة عام ١٩٧٠م أكتب كتاب ( أرض الوعد) مستغرقاً تماماً فيه ، ثم اتصلت بي زوجتي وأخبرتني أن بعض اللصوص هاجموها واختطفوا حقيبتها وفروا ، وأنها ستتأخر حتى تنتهي الشرطة من التحقيق ، وبعد ساعة وصلت إلى المنزل ولم اتحرك من مكاني مواصلاً الكتابة ، فانفجرت باكية فأدركت جُرمي ، واعتذرت لها عمّا فعلت »
كان الله في عون زوجات المفكرين وأمثالهم ، فلكل شيء ضريبة ، وهذه ضريبة النجاح .. عزيزي القارئ هذا المؤلف يحتوي على ٧٢٦ صفحة من الورق الفاخر والمُحتوى الفاخر أيضاً ، فقد سرد فيه المؤلِّف تجربته الحياتية والعلمية بشكل مُفصّل وبأسلوب مُتقن ولم يترك شاردة أو واردة من المواقف المهمة والتي أثّرت على مسيرته كمفكر عاش في الولايات المتحدة الأمريكية أخصب فترات حياته ، حيث تطرق إلى أهم معالم الحياة السياسية في أمريكا وعلّق بالتحليل والتفنيد كل فكرة خضعت لإدراكه ، لذلك يُعتبر كتابه ( رحلتي الفكرية في الذور الجذور والثمر : سيرة غير ذاتية غير موضوعية ) من أميَز مؤلفات السير الذاتية التي نُشرت على الإطلاق ، فتجربته ثرّة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، وهذه دعوى صريحة مني للإطلاع على هذه التجربة ، فالكتاب متوفر علي الإنترنت بالإضافة لمؤلفات الكاتب الأخرى ،، فالكاتب هدف إلى نشر العلم والفائدة قبل أن ينظر إلى العائد المادي ، لذلك يُعتبر المفكر عبد الوهاب المسيري ثروة عربية إسلامية تستحق الإهتمام بها والرجوع لما تركته من أثر خالد وباقي للإستفادة منها ،، لقد اقتبست مقتطفات صغيرة من جانب لم نتطرق إليه من قبل من حياة هذا العالِم ، وبقي الكثير جدا للإطلاع عليه ، لذلك لا تتركوا الفرصة تفوتكم .

هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email][/SIZE]