الشاطر طلع غبي
في أول رحلة لنا بقطار الأنفاق في لندن، من الفندق في يومنا الأول إلى المعهد الذي كان مقررا ان نلتحق به، أحسسنا بأننا كسبنا جولة في صراع الحضارات، لأننا ركبنا قطارين حتى وصلنا إلى وجهتنا من دون ان يمر علينا الكمساري لندفع له قيمة التذاكر، وعلمنا لاحقا أن تذاكر القطار يتم شراؤها في المحطة قبل «الركوب»، واعتبرنا ذلك غباء من البريطانيين، كيف تستقل أداة مواصلات، ولا يسألك أحد عن التذاكر أو قيمتها، ولم يكن وقتها هناك البوابات الالكترونية المعروفة باسم تيرنستايل turnstile والتي لا تنفتح إلا إذا حشرت التذكرة في فمها، وصرت (لاحقا) وفي أحيان كثيرة أركب قطارات الأنفاق من دون أن اشتري تذكرة، واعتبرت نفسي «شاطرا» لأنني أضحك على الخواجات اللي كانوا عاملين فيها أسياد كوكب الأرض، وذات يوم وأنا في القطار طب علينا مفتش التذاكر، وكان كل راكب يمد يده بالتذكرة، فيلقي نظرة عليها ويتقدم، فكان الرجل بالتالي يتحرك بسرعة عجيبة حتى وقف أمامي وتوقع مني أن أقدم له التذكرة، وأدركت عندئذ أنني -وليس الخواجات- من يعاني من غباء مستفحل، كان قلبي قد تضخم من فرط الخجل، فجميع من كانوا معي في تلك العربة كانت معهم تذاكر، إلا الشاطر أبو الجعافر، ولكن وبما أنني «طلعت غبي»، فقد قررت تمثيل دور العبيط حتى النهاية واللي بدو يصير، يصير. قال لي المفتش: تيكيت.. أي تذكرة، فقلت له: نو.. مي سودان.. فطلب من أحد الركاب تذكرته وعرضها علي بلغة الصم والبكم ليشرح لي أن المطلوب مني وريقة صغيرة كتلك التي في يده، فأخرجت من جيبي مفكرة بها أرقام هواتف وقدمتها له، فاحتار الرجل وسألني: نو إنجليش؟ فقلت مبتسما ببلاهة غير مصطنعة: مي نو سودان.. وعندها كان القطار قد وصل إلى إحدى المحطات فقلت له «سلام أليكم» وغادرت القطار، وعرفت في ما بعد ان غرامة عدم حيازة التذكرة الصحيحة تبلغ خمسة أضعاف قيمة التذكرة، والدرس الأهم هو أنهم في بريطانيا يعتمدون على «ذمة» الراكب، ويتوقعون منه أن يكون أمينا ويفي بالتزاماته سواء كانت قيمة تذاكر او ضرائب، وأن إدارة قطارات الأنفاق خير لها أن يكون هناك يوميا ألف مستهبل لا يدفعون قيمة التذاكر، من أن توظف جيشا من جباة التذاكر والمفتشين وتدفع لهم الرواتب والتأمين الصحي، وبعكس ذلك تجد في بلداننا كتائب من جباة ضرائب ما أنزل الله بها من سلطان، مفروضة على كل شيء ما عدا الأوكسجين، ومع هذا تبقى خزائننا خاوية، إما لأن الجبايات لا تدخلها أصلا وإما لأنها بالكاد تغطي أجور الجباة، ورؤسائهم ومديريهم، فكل نوع من الجبايات لابد من إدارة ومكاتب منفصلة ويفسر هذا لماذا تعاني الأجهزة الحكومية عندنا من التهاب المفاصل وتعجز عن أداء أي عمل ذي بال.
غادرت في ذلك اليوم المشهود مع زملائي الأربعة محطة إيوستن وهناك سألنا «براذر» أي شخص أسود، عن تافيستوك سكوير فأشار علينا أن نمشي دوغري لا يمين ولا شمال وسنجد الميدان وفي قلبه تمثال للمهاتما غاندي، وكنا بحسب الوصف الذي تسلحنا به نعرف أن المعهد الذي جئنا إلى لندن للالتحاق به يطل على ذلك الميدان.. وبعد مشوار قصير بالأقدام وجدنا أنفسنا في مدخل المعهد، ودخلناه ونحن نكاد نرقص فرحا.. ليس لأننا سنبدأ الدراسة ولكن لأننا نجحنا في ركوب قطارات الأنفاق عبر العديد من المحطات والسلالم الكهربائية من دون أن يصيبنا مكروه.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]