عبد اللطيف البوني

تسمع ما تشتهي


[JUSTIFY]
تسمع ما تشتهي

تقول الطرفة إن شيخ الشكرية ود اب سن كان كارها لدرجة الغليان للثورة والدولة المهدية وكان أحدهم يأتيه بين الحين والآخر من أم درمان ناقلا له أخبار سيئة عن الدولة المهدية في زمن الخليفة عبد الله كالخلافات بين أولاد البلد وأولاد البحر والصراعات بين الأشراف والصراعات العشائرية والقبلية ومهددات الغزو الخارجي وكل مايشي بأن الدولة المهدية على وشك الذهاب وكان ذلك الرجل (بكب عليها كوزين موية ) لكي يسعد ود أب سن أكثر ومن جانبه كان الشيخ يكرم وفادته ويجزل له العطاء فقيل لود أب سن إن هذا الرجل غير صادق وإنه يبالغ في تلوين الأخبار فكان رد ود أب سن (أنا عارفه كضاب إلا كلامه حلو).
موقف ود أب سن أعلاه يدخل فيما يمكن تسميته السماع الرغائبي قياسا على التفكير الرغائبي (وش فل ثنكنق) كما يقول الانجليز وهو أن لا تفكر بحسب الوقائع الموضوعية التي أمامك بل بما تشتهي وترغب أن ينتهي عليه الأمر أي تفكر تفكيرا منحازا لرغبتك فالسماع الرغائبي يصبح هو أنك تريد أن تسمع الكلام الذي يسرك وليس الواقع كما هو فهذا النوع من السمع يجعلك تجهل وعن عمد وقائع هامة أخرى موجودة وتبلغ الخطورة مداها إذا بنيت تصرفاتك على هذا السمع الرغائبي فتصبح قائمة على حيثيات غير حقيقية وبالتالي سوف تصل الى نتائج مؤذية بك.
يبدو أن ظاهرة السمع الرغائبي موجودة بكثرة في بحرنا السياسي السوداني حكاما ومعارضين ومحكومين خاصة الحكام لأن لديهم وسائل كثيرة للسماع الرغائبي فهم يشاهدون ويسمعون الإعلام الذي يسيطرون عليه سيطرة تامة فلا يعكس إلا صورهم ومايرضيهم ومع ذلك يصدقونه لا بل ينغلقون عليه ولا يطلعون على ما سواه ولعل هذا أيضا ما يسمى أحيانا بالثغرة التلفزيونية فالتلفزيون كما هو معلوم يكبر الأشياء فالأشياء الصغيرة عندما تعكسها الشاشة وتشاهدها الدنيا تصبح كبيرة ليس لأن حجمها كبير بل البث التلفزيوني هو الذي كبرها.
بعيدا عن التجريد لنأخذ مثلا تطبيقيا للسماع الرغائبي فيما يجري بين دولتي السودان ودولة جنوب السودان فالمفاوضات بينهما مازالت ترواح مكانها وستظل ترواح مكانها مش لو التقى الرئيسان فحتى لو قادها الرئيسان وأقاما في أديس او بحر دار أسابيع متواصلة فكل الدلائل تشير الي أنهما لن يصلا لشيء ليس انتظار لقرار من مجلس الأمن بعد الثاني من أغسطس بل لأن أي من الطرفين ينتظر جثة الآخر في بلده بمعنى جوبا تنتظر نهاية الإنقاذ في الخرطوم والخرطوم تنتظر نهاية الحركة الشعبية في جوبا فما تسمعه جوبا عن الخرطوم يقول إن الوضع السياسي فيها لم يتبق له إلا أيام معدودة وماتسمعه الخرطوم يقول لها إن حكومة الجنوب تبقت لها ساعات وسوف تصبح في خبر كان وبهذا لن يصل الطرفان لأي اتفاق.
نحن في السودان حكام ومعارضين وصناع رأي محتاجين بشدة للتخلص من آفة التفكير والسماع الرغائبي فالرغائبي يعني في المقام الأول خداع الذات بحجبها عمدا عن رؤية الواقع كما هو ومن ثم نبني سياسات واقعية وليس سياسات مشتهاة فالمقدمات الخاطئة تقود حتما لنتائج خاطئة.
[/JUSTIFY]

حاطب ليل- السوداني
[email]tahersati@hotmail.com[/email]