أرامكو وبي بي سي نشفا ريقي
هناك جهتان عملت فيهما حتى نشف ريقي: شركة أرامكو وتلفزيون بي بي سي، ففي أرامكو كنت أشغل وظيفة «أخصائي ترجمة»، وهناك أدركت أن وظيفة أخصائي أمراض نساء وولادة أسهل من تخصص الترجمة، وما زلت أعتقد أن المتخصص في طب النساء والتوليد، «شهيد» حي، فلسبب غير معروف تتحول الفتاة ذات اللياقة الأولمبية بعد الزواج إلى كائن هش كله كلاكيع وبلاوي، وكل دا كوم ومرحلة الحمل كوم يتقزم أمامه جبل إيفرست، فمع الحمل تبدأ الشكوى من آلام الظهر والبطن والكتف والجيوب الأنفية والمفاصل والمسالك البولية، وتجلس الحامل أمام الطبيب المتخصص وتقدم له عريضة بها نحو سبع شكاوى على الأقل، وفوق هذا كله فطبيب النساء والولادة مسؤول عن «روحين» أو أكثر، ولو عنده سلفا زوجة تبقى «مصيبته مصيبة».. ما معنى هذه العبارة البلهاء؟ كيف تكون المصيبة مصيبة وهي أصلا مصيبة؟.. المهم في أرامكو كانوا يضعون أمامي تلالا من الأوراق لأترجمها بقلم الرصاص (عصر ما قبل الكمبيوتر) وبعد التحاقي بالشركة بأسبوع واحد ذهبت الى العيادة وأنا أحسب أنني أعاني من الالتهاب الروماتويدي في أصابعي فقد تيبست وصرت عاجزا حتى عن استخدامها في تناول الطعام.. وأي ريال دخل جيبي من أرامكو حلال ١٠٠% لأنني صرت تدريجيا «حمار شغل» كما نقول في السودان عن الشخص الذي يؤدي أعباء وظيفية كثيرة وشاقة بدون شكوى.. وفي أرامكو تعلمت شيئا مهما: أنجز عملك أولا ثم فكر في أمورك الأخرى، (كثير من الناس لا ينجز العمل إلا بعد أن «يزنقهم» الوقت)، وفي بي بي سي كانت ساعات العمل في اليوم الواحد عشر ساعات، وكما هو الحال في كل القنوات الفضائية الإخبارية فقد يكون نصيبك من العمل خبرا واحدا خلال الساعات العشر، ولكنك تبقى ملزما بالجلوس أمام الكمبيوتر لمتابعة ما يرد من أخبار، وقد يكون حظك زي الزفت، وتحدث تطورات متلاحقة في الخبر الوحيد الذي كلفوك به، وتجد نفسك تعمل نحو ١٢ ساعة متتالية، ولكن طول ساعات العمل كان يقابله طوال العطلة الأسبوعية: ٣ أيام متتالية
ولكن بحساب ساعات العمل منذ لحظة مغادرتك البيت الى وايت سيتي في منطقة شبردس بوش حيث كان مبنى تي في هاوس مقر تلفزيونات بي بي سي، تجد أنك تغيب عن البيت نحو ١٣ ساعة يوميا لأن «المسألة» فيها قطارات وحافلات وطلوع ونزول، وكانت عندي سيارة، ولكنني كنت استخدمها فقط لشراء لوازم الطعام من الأسواق القريبة، ولو فكرت في الذهاب بها الى مقر العمل لكانت الصحف الى يومنا هذا تنشر الخبر «خرج ولم يعد.. أوصافه…».. ذات مرة خرجت مع زوجتي بالسيارة، بحثا عن مسكن في منطقة لا تبعد كثيرا عن الموقع الذي كان فيه البيت الذي فكرنا في الرحيل عنه، وصرنا ماشيين وماشيين، وماشيين، إلى ان قرأت لافتة تقول: مرحبا بكم في ليدز.. التي تبعد عن لندن بـ٢٨٥ كيلومترا، واحترمت سيارتي لأنها قطعت تلك المسافة من دون ان تشكو من الجفاف، وزودتها بالوقود وحاولت العودة الى البيت في لندن وظللت ألف وأدور نحو أربع ساعات، إلى أن مررنا بسيارة شرطة واستنجدت بها لعلمي ان عيالي سيكونون في حالة قلق قاتل، وكنت وقتها عنيدا ورافضا للهاتف الجوال، وطلبت مني الشرطة متابعتهم الى نقطة معينة، ثم أعطوني التوجيهات الكفيلة بإيصالي الى الطريق المؤدي الى بيتي
كانت أحلى «شِفْت» وردية تلك التي تنتهي في العاشرة ليلا، فقد كانت بي بي سي توفر سيارة على نفقتها لكل من يعمل لديها بعد العاشرة، ولأن قطارات الأنفاق تكون مهجورة وغير مأمونة لأن بها بعض السكارى بعد التاسعة ليلا، فكثيرا ما تسكعنا في مبنى القناة حتى تأتي العاشرة ليلا ونضمن لأنفسنا توصيلا مجانيا بسيارة بيبيسياوية
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]