عصام الدين عبد الوهاب:الادارة الاقتصادية الحالية غير قادرة على الخروج من تحت عباءة السياسات السابقة وبالتالي غير قادرة على التغيير
و خلال السنتين الماضيتين تراجعت قيمة الجنيه السوداني مقابل الدولار ووصل سعر العملة الامريكية مقابل الجنيه اسعار قياسية وذلك بسبب كثير من التحديات اهمها الاوضاع الامنية في عدد من الولايات و مازال يواصل ارتفاعه خاصة مع تفاقم الاوضاع في جنوب السودان مؤخرا .
ومع اعلان موازنة العام الحالي كان هنالك كثير من التفاؤل في ان تأتي تقديراتها في اتجاه حل مشكلة البلاد الاقتصادية وبالفعل حملت الموازنة بشريات عديدة توقع معها الخبراء ان ينصلح الحال خاصة مع قدوم ادارة اقتصادية جديدة في بنك السودان و البنك المركزي .
الوضع السياسي الراهن بالتطرق لمشكلة الجنوب وانعكاسها على الوضع الاقتصادي؟
في الحقيقة أن الوضع السياسي حالياً في السودان يرتبط بكثير من المتغيرات التي بات من الواضح أنها لا تقتصر على الأوضاع الداخلية السودانية فقط ولكنها ترتبط مع علاقاتنا مع دول العالم وأن ما يدور داخل السودان ينقل إلى العالم في دقائق معدودات من خلال وسائل الإعلام وشبكات نقل المعلومات ومن المعلوم في السابق أن السودان كان يعتمد على الكثير من المنح والإعانات في برامج للتنمية وكان دعم الميزانية يأتي من دول خارجية من بينها دول أوربية ورغم الخلافات السياسية التي طفت على السطح وأصبحت حقيقة واضحة ورغم الحصار الاقتصادي المفروض على السودان فان وسائل الدعم والعون الإنساني لم تتوقف وإن كانت تأثرت سلباً بإجراءات حكومية وانعكاسات على موقف الدولة من هذه المنظمات وبغض النظر عن أنها تختص بالعون الإنساني هذه السياسات أثرت على صورة السودان في العالم الخارجي وزاد منها المعاناة الإنسانية في الأقاليم التي تشهد النزاع الأهلي في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ولكن الأثر السلبي أيضاً انعكس على متطلبات تمويل هذه النزاعات والتي أصبحت تمثل نزيفاً للاقتصاد السوداني يذهب سلاحاً وذخيرة ورواتب وغيرها من المتطلبات وما يؤلم حقا أن نتيجة أي نزاع أهلي ينبع من مفاهيم الهياكل السياسية يؤدي إلى سلطوية مطلقة سواء على الصعيد السياسي أو على صعيد التصرف في الأموال العامة وينتج عنه فساد وتعدٍّ على الأموال العامة وانهيار القيم ونزيف لأي مورد اقتصادي ممكن وتصبح وسائل تمويل النزاعات والتعدي على المال العام هي الموارد العامة وعندما تبدأ في النضوب لا يصبح أمام السلطة إلا طلب المزيد ثم المزيد والنتيجة الحتمية هي توقف عجلة الإنتاج نتيجة لنضوب الأموال لتمويل القطاعات الاقتصادية وهذه سياسة في مجملها هزيمة للذات ويزيد عليها انعدام أو عدم القدرة على استنباط رؤية للإصلاح ولجوء القائمين على الأمر لدفن رؤوسهم في الرمال مع انعدام الشفافية التام سواءٌ داخل صفوف أعضاء السلطة أو بالنسبة لعامة الأمة وللأسف تتخذ قرارات خاطئة ولا يحاسبها أحد ولا يراجعها وكأنها أنزلت في رسائل سماوية كل هذا نتيجة عن وحدوية اتخاذ القرار وتهميش الغير وإهمال مبدأ الإسلام الأول و هو الشوري.
مع التعديل الذي تم في الوزارات هل مازال ذلك منطبقا على الوضع الاقتصادي ؟
نعم تنطبق كل الحقائق السابقة على الوضع السياسي الحالي في السودان ورغم الادعاء أن هنالك تغييراً في السلطة فإن ذلك لا يبدو حقيقياً ومن الواضح أن التغيير كان في الأشخاص وفي بعض الأحيان مسميات الوظائف وفي أحيان أخرى مجرد تنقلات أفراد بين أماكن ومؤسسات السلطة ولكن أين التغيير الحقيقي.. بالأمس تحدث وزير المالية عن سياسات رفيقة بالمواطن ولكنه في مؤتمر صحفي لاحق تحدث عن تقويم الجنيه السوداني بصورة قاطعة وسماه سعر الدولار المرن وفي حديث آخر تحدث عن أن وزارته ستواصل محاربة التجنيب ولكن نفى حديثه حديث وزير دولته بأن التجنيب قانوني وهذا يوضح وجود تناقض في تصريحات المسؤولين في الوزارة الواحدة وينتقل إلى أداء أحد أهم أدوات ضبط الإنفاق العام وهو المراجع العام الذي لم يقدم تقريره حتى الآن متأخراً 4 أشهر كاملة وكأن تقريره لا يهم السلطة الحاكمة ولا يعبر إلا عن أوراق مطبوعة لا يعمل بها أحد، هذا ينطبق على أداء الأجهزة العدلية والقضائية التي لا تُملّك تقارير عن التعدي على المال العام وتوضح أنها بحاجة لضبط مثل هذه الممارسات ولكنها لا تستطيع إلا في ظل استقامة كل الأجهزة الحكومية ومع نفس هذه الظاهرة كان رد فعل السيد غندور التصريح بأنه لا يوجد فساد في السودان بل إنه عبر عنه حرفياً (جلابية لبسوها لينا الجماعة) وهو دفن للرؤوس في الرمال وتفادٍ لرؤية الحقائق وانعدام تام للشفافية التي بدونها لن تُرى مواطن الخطأ وبالتالي لن تُعرف وسائل تصويبه.
ماهي الآثار المتوقعة للأحداث في دولة جنوب السودان؟
من الواضح أن أحداث الجنوب لها آثار مباشرة على الشمال أولها انقطاع النفط وبالتالي حرمان الشمال من عوائد النقل لموانئ التصدير وسيفقد سنوياً ما قيمته 1,5 مليار دولار كحد أدنى، ومهما تصرفت المالية فهذا مورد العملات الحرة الأول للسودان.
ذكر وزير المالية أن هنالك ما يكفي من بترول الجنوب في الأنابيب لربع الميزانية؟
حقيقة هذا الحديث يوضح مدى تخبط من قاله.. من قال أن يكون لدينا ما يكفي لمدة 3 شهور هل ما هو موجود بالأنابيب قيمته هي للسودان الشمالي ولا يملكه الجنوب وهل يمكن ضخ بترول 3 أشهر في أسبوع أو أسبوعين؟ وهل لا يحتاج الشمال إلى مزيد من الأموال ويكتفي بما تم ضخه في 3 شهور ومن المعروف أن أساس صناعة النفط هو الإنتاج المستمر المستدام ونقله بصورة ثابتة إلى الأسواق العالمية بحيث لا تحدث ثغرات في المنظومة الإنتاجية وقد سبق للاقتصاد الشمالي والجنوبي أن تأثر بوقف ضخ النفط مما أخرجه من الأسواق العالمية لفترة طويلة وإعادة وقف إنتاج وضخ النفط لن يسمح بها المجتمع الدولي لأن النفط يشكل منظومة عالمية لكل دولة منتجة حقها ويتأثر العالم بارتفاعها وانخفاضها وهذا ليس (لعب عيال) لا لوزير المالية ولا بالنسبة للحرب الأهلية في الجنوب وأرى أنه إذا استمر هذا النزاع سيتحرك المجتمع الدولي ويسيطر على منابع النفط في الجنوب وقد يكون هذا الهدف الاستراتيجي الأخير لطرد التنين الصيني والنمور الآسيوية من جنوب السودان الذي يشكل اللعبة الجديدة للغرب ولا يمكن للغرب أن يمول التنمية والعون الإنساني بجنوب السودان دون أن يمتلك التصرف في موارده وإذا كان السياسيون هناك كما هو الحال في كل إفريقيا لم ينضجوا بعد لمصالح بلادهم فلابد من فرض الأصلح لهم عن طريق الغرب ولا يمكن استبعاد تحرك أمريكي للتدخل بشكل جزئي في الجنوب خاصة أن قيادة (أفري كوم) أو القيادة الأمريكية في إفريقيا لها وجود كبير في إفريقيا الوسطى ومن المنطقي أن تنقل كل أو بعض نشاطها إلى جنوب السودان وهو يمثل بعداً إستراتيجياً لها لا يمكن تجاهله وقد عبر عن ذلك الكثير من الأكاديميين الغربيين.
ماذا ينبغي على حكومة السودان فعله حالياً حيال الأمر في دولة الجنوب؟
بالنسبة لموقف حكومة السودان فهو محدود ويجب ألا ننصح إلا بتدخل دبلوماسي وإعداد المعسكرات والمستشفيات لرعاية اللاجئين وغير ذلك يكون مهدداً للمصالح الشمالية وفوق كل ذلك إعادة النظر في فتح الحدود وانتقال البضائع من الشمال للجنوب.
وماذا عن زيارة الرئيس إلى الجنوب وماذا ستحقق؟
بالنسبة لزيارة الرئيس البشير فإذا كانت لدعم طرف ضد الطرف الآخر في الجنوب فسوف يكون خطر كبير وسوف تكون زيارة لها أثر سلبي على العلاقة بين البلدين في الحاضر وفي المستقبل وكان من الأفضل أن لا يقوم بها الرئيس حتى لا تفسر بصورة خاطئة بأنها تأييد لطرف ضد الآخر، وليس لشمال السودان مصالح أو خلاف مع جنوب السودان وما يحدث فيه هو نزاع داخلي يجب ألا نتورط فيه الآن ومستقبلاً. علاقتنا مع الجنوب علاقة أهلية وترتبط بالمصالح الاقتصادية التي تفيد الشمال والجنوب وضخ ونقل النفط عبر موانئ الشمال بالإضافة إلى السماح للاستثمارات في البلدين للعمل بحرية ومنها الاستثمارات الزراعية والصناعية.
ماهي رؤيتك للتبادل التجاري مع الجنوب؟
حتى الآن لا توجد رؤية واضحة في معالم التبادل التجاري بين البلدين ولم تعقد اتفاقية بعد وهذا خطأ كبير لأن الجنوب هو دولة مستقلة قائمة بذاتها ولها مورد اقتصادي هام وهو النفط ومن المفيد اقتصادياً لشمال السودان فتح أبواب التبادل التجاري عبر الحدود وحمايته مما كان يحدث سابقاً في الجنوب من سلب ونهب وقتل ويجب أيضاً حماية الشماليين هناك تجاراً وأفراداً وفي تقديري أن جنوب السودان يعتمد بصورة كبيرة على الشمال في أمنه الغذائي بالإضافة إلى سلع اقتصادية أخرى وربما إذا تم تعزيز تجارة الحدود إلى التجارة الكاملة وربط البلدين بخطوط السكة حديد والطرق البرية فقد يصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى ما يزيد عن 4 مليارات دولار وهذا يمثل ضعف وأكثر من أي مبالغ يتلقاها الشمال عند ضخ النفط.
ماهو المطلوب حالياً لإحداث الاستقرار الاقتصادي؟
ما يجب أن نناقشه حقيقة ودائماً الاستقرار الاقتصادي في شمال السودان وهو يعتمد على أداء متغيرات الاقتصاد الكلي ومنها حساب رأس المال حيث نجد أننا نعاني من اختلال في الميزان التجاري للصادرات والواردات ونعاني أيضاً من اختلال ميزان المدفوعات الذي يميل إلى الجانب السالب ويتركز على دفع ثم دفع المزيد من الموارد العامة للاستيراد ولكن هذه لا تشكل المشكلة الأساسية وإنما المشكلة الحقيقية هي روح السياسات الاقتصادية التي تتغير تبعاً لتغير اللاعبين في ملعب السياسة السودانية وفي نفس الوقت تشابه هجيناً غريب من التحرير الاقتصادي والهيمنة التامة على الأنشطة الإنتاجية والمؤسسات الاقتصادية في دولتي السودان.. اشتكى المراجع العام في أحد تقاريره من عدد من مؤسسات الدولة الاقتصادية التي نجدها غير مسجلة في قوائم وزاراتها ولكنها تقوم بأعمال تجارية وأنشطة اقتصادية معتبرة وفي نفس الوقت نجد أن الدولة قد أعلنت ثورة عامة على مؤسساتها الاقتصادية وذبحتها من الوريد إلى الوريد إن كانت خاسرة أو رابحة اقتصادياً وهذا بذريعة تطبيق سياسة التحرير الاقتصادي ، كُتب عن هذا الكثير وصدرت كتابات عديدة ولكن الأمر المحزن أنه لا يوجد رد فعل مما دعا إلى تدمير مشروع الجزيرة وخسارة المورد الاقتصادي الأول وقاعدة الأمن الغذائي في البلاد، سبق ذلك اتفاقات على بيع الموانئ البحرية والأسطول البحري والنهري في السودان ولم ينقذ السكة حديد الا التدخل الشخصي من بعض الأفراد ولم ينقذ الجزيرة من بيع أرضها إلا الاحتجاجات الجماعية ومع ذلك لم تصرف لهم الأموال ولم تُنمّى بنيتهما التحتية حتى يعملا بطاقة قصوى وهما الآن يعملان بـ 25% من القدرة الإنتاجية ومع ذلك نتحدث عن التنمية الاقتصادية وتحسين الأوضاع. يرتبط الهيكل الإنتاجي للبلاد على احتياطي الذهب والعملات الحرة وهذا يعد قاعدة العملة الوطنية ولكن وزراء المالية السابقين لم يكن لديهم الرؤية أو الاعتبار الضروري للمحافظة على قيمة العملة الوطنية رغم أن ذلك كان شعار احد أعضاء مجلس الثورة عام 1989م أنه لولا حدوث الانقلاب لوصل السعر إلى 20 جنيهاً سودانياً وهاهو الدولار يصل إلى 8.50 ألف جنيه سوداني ولا يحرك وزير المالية ساكناً إلا بقرارات لمزيد من التعويم للعملة الوطنية وسحب أي دعم حكومي للاقتصاد مما يدعو إلى التساؤل.. إذا كانت الحكومة تنصلت من التدخل في السياسات الاقتصادية وضبطها وليس لها دور إلا في فرض الضرائب الباهظة فماهو الداعي لوجود الحكومة والتي كسرت كل مواثيق العقد الاجتماعي وألغت وجودها في دعم حياة المواطن إلا دورها في تفريغ جيوبه وحرمانه من لقمة العيش.
هل تتوقع تغييراً خلال العام الحالي والأعوام المقبلة؟
اعتقد أن الحكومة الحالية غير قادرة على الخروج من تحت عباءة السياسات السابقة وبالتالي غير قادرة على التغيير لأنها تطبعت وشربت بنماذج لم تعد مجدية في مقابلة مشاكل السودان ولا وضع حلول لها وأن التغيير لا يمكن أن يحدث إلا إذا تم استبدال الحكومة الحالية بحكومة من التكنوقراط أو حكومة فنيين لا ينتمون إلى أحزاب سياسية وليس لهم مهام إلا تقويم الخلل الواقع في أداء السلطة. وبدون ذلك لا توجد حلول على الإطلاق وما يصدر ليس إلا ترضيات وكلمات تذهب مع الريح.
ما رأيك بموازنة العام الحالي؟
تقديرات الموازنة التي وضعت في 2014 اعتمدت على أرقام خيالية وسجلت وعوداً لا يستطيع وزير المالية تنفيذها وأول خطأ هو تضمينه موارد غير موجودة وفي نفس الوقت عدم تضمين موارد حقيقية في أرقام الميزانية ولكن أكبر شك في هذه الأرقام هو من يتصرف.. في الزمن الماضي كانت هناك عقوبة على نقل الأموال من بند إلى بند والآن أصبح التجنيب أمراً مشروعاً بحديث بعض المسؤولين ومحرماً بقوانين الدولة وهذا يعطي مجالاً لشك حقيقي في قدرة الإدارة الحالية على تنفيذ أي من برامجها الحالية وعلى رأسها موازنة 2014م.
حوار : ناهد أوشي – ابراهيم الصغير: صحيفة اخبار اليوم
[/JUSTIFY]