جعفر عباس

المفاصلة قبل الرحيل


[JUSTIFY]
المفاصلة قبل الرحيل

عندما عقدت العزم على مغادرة قطر الى لندن للعمل في تلفزيون بي بي سي العربي، نشرت إعلانا في الصحف لبيع أثاث بيتي، وخلال ساعات كنت استقبل وفودا من تجار الأشياء المستعملة، وخلال أقل من خمس دقائق كنت أطرد كل تاجر يدخل بيتي، فهم يدركون أن من يرغب في بيع كامل أثاث بيته شخص «مزنوق» بصورة أو أخرى.. مثلا، غارق في الديون أو مضطر الى مغادرة البلاد، ومن ثم عرضوا علي – وكانوا جميعا آسيويين – أسعارا استفزازية: ثلاجة ١٨ قدما.. بابا أن ياتيك (يعطيك) كمسين ريال.. سرير كنج سايز هادا واجد قديم ممكن ياتيك إشرين ريال.. وكان رد فعلي الطبيعي مع كل واحد منهم هو: اطلع تطلع روحك… بمثل تلك التسعيرة فإن قيمة أثاث ست غرف نوم وصالتين وصالون لم يكن سيزيد على الـ٥٠٠ ريال.. وبداهة فهم يدركون أنهم يبخسون قيمة أشيائك ويحسبون أنك سـ«تفاصل» في حدود المبلغ الذي يحددونه، وليس من عادتي أن أفاصل في السوق عندما اشتري شيئا، حتى وأنا أعرف أن السعر خاضع للمساومة، ويقول لي التاجر – مثلا – إن سلعة معنية بمائة ريال، وأعرف أنه سعر مبالغ فيه فأقرر مغادرة المتجر فورا، وما يحدث في غالب الأحيان هو ان التاجر يتراجع: خليها ٩٥ ريالا!! لا، سبعين وبس.. وأشتريها بسبعين وبس، وهكذا اكتشفت أن مغادرة الدكان تعبيرا عن رفض السعر المطلوب هو أفضل وسيلة للمساومة والمفاصلة.

عندما غادرت أبو ظبي في عام ١٩٨٨ الى الدوحة للعمل في شركة اتصالات قطر، كانت لدي سيارة جديدة استخدمتها لنحو خمسة أشهر فقط، ونشرت إعلانا في الصحف لبيعها وحددت سعرا منصفا لي وللمشتري، بمعنى أنني عرضتها بسعر أقل من السعر الذي كانت «تستحقه»، وقبل طلوع الشمس رن الهاتف، وكان المتصل هنديا فسألته ما إذا كان جادا في شرائها بالسعر الذي حددته في الإعلان فقال: شور.. وبناء على الشور erus تلك حددت له مكان سكني، وجاء الرجل وأعطيته مفتاح السيارة ليقودها وأنا معه، ويقوم بجولة قصيرة للتأكد من أن محركها وهيكلها وكل شيء فيها سليم، وفور جلوسه في مقعد القيادة سألني لماذا أريد بيعها، فقلت له: قت آوت.. اطلع بره.. ويبدو أن الدهشة شلّت قدرته على التفكير والكلام، فانتزعت من المفتاح من يده وتوجهت نحو باب العمارة التي تضم مسكني فجاء الرجل يطاردني، وهو يقول إن البيع والشراء يستوجب الأخذ والرد، فقلت له: لا مانع ولكنني لن أبيعها إلا بمبلغ كذا وكذا وكان أكبر من السعر الذي عرضته في الإعلان بنحو ٥٠٠٠ درهم.. هنا أخرج الرجل من جيبه رزمة أوراق مالية وقال: هذا هو السعر الذي طلبته في الإعلان، فقلت له: لن أبيعها لك أنت بالذات إلا بزيادة خمسة آلاف فوق ذلك السعر.. ما استفزني هو أنه كان يريد ان يعرف لماذا أريد بيع سيارة جديدة «ضمانها» ما زال ساريا، حتى يكتشف «نقطة ضعفي» ليساومني في السعر.. المهم أنني بعتها لغيره بالسعر الذي طلبته.

أما بالنسبة إلى أثاث بيتي في الدوحة فقد شاءت الظروف أن عائلة سودانية كانت بصدد تأثيث بيت «مما جميعه» فبعت لها معظم الأثاث بسعر معقول، وأعطيتهم قطع أثاث صغيرة ولوحات فنية ونباتات زينة «فوق البيعة».. ولولا قيمة الأثاث والسيارة وفوقها مكافأة نهاية الخدمة التي حصلت عليها، وحملتها معي الى لندن لعشت مع عائلتي عيشة الكلاب، لأن أولاد ال… يعطونك راتبا ضخما على الورق ثم يقصقصونه بالضرائب، فتعيش مقصقص الجناح.

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]