جعفر عباس

لماذا لم «تنفع» لندن معنا


[JUSTIFY]
لماذا لم «تنفع» لندن معنا

ما جعل حياتنا في لندن، كأسرة، صعبة، هو أننا لم نكن معتادين على إيقاع الحياة السريع، فنحن نتاج ثقافة استهلاكية تبحث عما هو «جاهز» ولا تؤجل عمل اليوم إلى الغد بل «تلغيه» وتهمله تماما، بمنطق أن العمل من الأبواب التي تجيب الريح، ومن ثم من الخير أن تسده وتستريح، فنحن من صاغ المقولة «لو كان الشغل بيخلص كان أعطوه لمقاول».. في لندن لا مجال للاستعانة بخادمة، ولابد أن تكنس وتغسل وتكوي بنفسك، وأكبر مشكلة واجهتنا في لندن هي الثلاجات الصغيرة في البيوت، ونحن معتادون على الثلاجات الضخمة لنخزن فيها قوت أسبوع او شهر.. نحرص على شراء الدجاج واللحم الطازج بـ«كميات» ثم نضعه في الفريزر… ونطبخ بكميات ونخزن في الثلاجة، وثلاجات ٩٠% من بيوت لندن لا تتسع لأكثر من ثلاث علب زبادي ووعاء بلاستيكي للبن، ونشفت زوجتي ريقي كي احصل لها على لبن بودرة، لأنها لا تحب الطريقة الانجليزية المتمثلة في صب اللبن البارد على الشاي، وبعد بحث مطول عثرت على حبيب الجماهير نيدو في سوق شبردس بوش الشعبي وهو سوق يباع فيه كل شيء بتراب الفلوس لأنه إما رديء الصنع وإما مغشوش وفشوش.

واعتقد -اعتقد إيه- أجزم بأن زوجتي مارست خلال عامين في لندن من أعباء ربة الأسرة ما لم تمارسه طوال سنوات زواجنا (وإلى يومنا هذا)، فقد كانت ملزمة بشراء مستلزمات الطعام يوميا، ولأن لؤي التحق بحضانة تبعد عن مدرسة أخته مروة، فقد كانت ملزمة أيضا بإعادته إلى البيت، وكانت معظم تلك المشاوير سيرا على الأقدام، وذات مرة كنت أسير معها في سوق قريب من البيت، وكالعادة كنت أسبقها بنحو عشرة أمتار، فمهما حاولت السير ببطء فإنها لا تجاريني في المشي، ليس فقط لأنها أبطأ مني حركة، ولكن، لأنها وكعادة الكثير من النساء، لا تستطيع مقاومة الوقوف أمام كل فترينة.. المهم أنه في ذلك اليوم وكعادتي التفت إلى الوراء لتقدير المسافة التي تفصلها عني، فلم أجد لها أثرا، فوقفت متكئا على عمود كهرباء بضع دقائق ولكنها لم تظهر، فاستدرت راجعا للبحث عنها، فوجدت خلقا يحيطون بها وهي جالسة على الأرض.. كانت الدنيا شتاء، وهناك ما يسمى بلاك آيس وتعني الثلج الأسود، وهو غير الجليد الذي يكون شديد البياض، وسر التسمية هو أن الثلج يكون شفافا وهو يغطي أسفلت الشوارع فلا يحس الناس بوجوده ويحدث انزلاق القدم الذي يسبب انزلاق غضروف أو أكثر في العمود الفقري.. وكانت تلك واحدة من عدة «وقعات» للمدام بسبب الثلج والجليد، وبسبب رأسها «الناشف» فقد ظلت ترفض ارتداء الأحذية ذات التعريجات المانعة للانزلاق في كعوبها لأن شكلها «رجالي»، ولكن بعد رابع أو خامس وقعة استطعت أن أقنعها بأنهم في بريطانيا يغيرون حتى إطارات السيارات في الشتاء بحيث تصبح قادرة على السير من دون أن تنزلق أو تعجز عن التوقف عند الضغط على الفرامل (الكوابح).

لو كان ذهابنا إلى لندن من السودان، لربما لم نكن سنشكو من أعباء الحياة اليومية، لأن الحياة في السودان مجاهدة و«مجابدة» وهذه الأخيرة كلمة عامية سودانية نجمت عن تصحيف كلمة «جذب» حيث جعلناها «جبد»، ونستخدم الجبادة لصيد السمك وهي مهمة تتطلب الكثير من المجابدة التي يقترن فيها الشد بالجذب، ولكننا ذهبنا إلى لندن من قطر حيث كنا -كما اكتشفنا بعد إقامتنا في لندن- نعيش حياة مرفهة: خادمة تقوم بالأعباء المنزلية ومشواران يكفيان لتوفير لوازم الطعام كافة لشهر كامل، وحافلات تنقل عيالنا من وإلى المدارس جيئة وذهابا.

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]