جعفر عباس

بي بي سي «الهردبيسي» *


[JUSTIFY]
بي بي سي «الهردبيسي» *

بالتأكيد استفدت كثيرا من العمل في تلفزيون بي بي سي من عام ١٩٩٤ الى ١٩٩٦، ورغم أن شبكة سي ان ان كانت قد غيّرت خارطة التلفزة على نطاق العالم بأسره، لأنها دخلت الساحة بإمكانات ضخمة، وطبقت شهرتها الآفاق بعد حرب الخليج الثانية (تحرير الكويت من الاحتلال العراقي في عهد صدام حسين) في مطلع تسعينيات القرن الماضي، فإن معظم شعوب العالم الثالث ظلت تكنّ احتراما شديدا لبي بي سي، لكونها الأكثر حيادية ودقة في نقل الأخبار من مختلف أنحاء العالم، رغم أن تمويلها يأتي من ميزانية وزارة الخارجية البريطانية، والضرائب التي تجبى من المواطنين البريطانيين تحت مسمّى تي في لايسانس (رخصة التلفزيون)، وذلك نظير استقبالهم برامج تلفزيونات وإذاعات بي بي سي المحلية، بلا مقابل، ولكون بي بي سي ممنوعة من بث الإعلانات التجارية عبر شبكاتها المحلية، وكانت بي بي سي قد اشتهرت في العالم العربي بإذاعتها العربية (هنا لندن)، ذات المصداقية التي أكسبتها جماهيرية كاسحة منذ الخمسينيات، وكانت «هنا لندن» هي المصدر الوحيد للأخبار الدقيقة عما يدور في العالم العربي، لأن الحكومات العربية كانت – ولا يزال بعضها – تميل إلى التعمية والتمويه والتضليل بالكتمان تارة، ونشر الأكاذيب في أغلب الأحوال.. وكان عامة الناس يميزون بين مذيعي «هنا لندن» بأصواتهم، فقد كان لكل منهم بصمة خاصة، وكانوا جميعا ذوي ثقافة عالية، ومتمكنين من اللغتين العربية والإنجليزية، مما جعلهم قادرين على انتاج وتقديم برامج عالية التشويق.

وحتى شهر يوليو الماضي (٢٠١٢) كان مقر «هنا لندن» في مبنى بوش هاوس في وسط لندن، بينما كانت جميع قنوات بي بي سي التلفزيونية في مبنى تي في هاوس في وايت سيتي، في منطقة شبردس بوش، الشهيرة بسوقها الشعبي الذي يتدفق عليه السياح العرب لشراء السلع المغشوشة والمضروبة وتقديمها هدايا الى الأحباب عند عودتهم الى أوطانهم، لأننا مازلنا نعاني من عقدة لندن، ويكفي أن تكون الهدية من لندن لتكسب قيمة خاصة حتى لو كان نظيرها متوافرا في الأسواق المحلية بمواصفات أجود.. المهم قرروا إرسالنا على دفعات الى إذاعة «هنا لندن» لمزيد من «التدريب»، ولسوء حظنا كانت تلك الإذاعة قد خلت تماما من جيل العمالقة، ووجدنا بداخلها حربا ضروسا بين هذه الشلّة وتلك، وأحاديث كثيرة عن المحاباة والتسلق على أكتاف الآخرين بالوشايات والبكش.. باختصار كان الجوّ العام فيها «مريضا»، وفي أول يوم «تدريب» لنا في الإذاعة أعطوني وزميلي عثمان جعفر النصيري قصاصات لأخبار بالإنجليزية لنقوم بترجمتها وتحريرها، وعندما فرغنا من تلك المهمة، جاء من يأخذ النصوص التي كتبناها ويدخل الستوديو ليقرأها على الهواء.. واستمرت السخرة ثلاثة أيام فعدنا الى قناتنا التلفزيونية وأبلغناها بأنه ليس لجماعة «هنا لندن» ما يقدمونه الينا أو إلى غيرنا،.. أكثر ما أدهشني هو أن كثيرين من المذيعين ومقدمي البرامج في تلك الإذاعة كانوا يحملون الجنسية البريطانية، ولكن حظهم من اللغة الإنجليزية كان مثل حظ مستر «بين» من الذكاء، والأنكى من كل ذلك هو أن إلمام كثيرين منهم باللغة العربية الفصحى كان مثيرا للرثاء.. ومازلت أذكر مذيعا لا يزال يعمل في تلك الإذاعة كان ينطق اسم النائب البرلماني المخضرم روبن كُك، بضم الكاف الأولى وهو نفس التسمية التي تطلق بالإنجليزية على الطاهي/ الطباخ kooc ينطقه كوك، التي تعني عضو الذكورة، وكان الرجل ملء السمع والبصر كنائب برلماني ثم وزير خارجية، ولكنه ما زال يتقلب في قبره كلما جاءت سيرته على لسان صاحبنا.

* الهردبيس في العامية السودانية هو الشيء المكلفت.. سمك + لبن + تمر هندي.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]