تحقيقات وتقارير

تقلّب أوراق العمر مع الدكتور “محمد خير الزبير” محافظ بنك السودان السابق

[JUSTIFY]الدكتور “محمد خير الزبير”، أحد أعلام الاقتصاد السوداني، ويتمتع – رغم جمود علم الاقتصاد – بخفة دم ولطف ومهارات عالية في مجال كرة القدم، التي مارسها منذ أن كان طالباً بمدرسة الخرطوم الثانوية القديمة، حتى صار أحد أعمدة نادي شمبات الرياضي، وظل لاعباً أساسياً فيه لإثني عشر عاماً.
في هذا الحوار الذي امتد إلى حوالي ساعتين بمنزل “الزبير” في شمبات، قمنا بتقليب أوراق العمر مع ضيفنا.. المولد والنشأة والدراسات والمحطات المهمة في حياته.. وكيف تقلد منصب وزير الدولة بالمالية.. ومن الذي رشحه.. وكيف وصل إلى منصب وزير المالية.. وماذا أعطته الوزارة وماذا أخذت منه.. متى استقر الاقتصاد السوداني ومتى انهار.. وما هي الأسباب.. أفضل وزراء مالية عمل معهم.. ولماذا هاجر للعمل بليبيا.. ومن الذي اختاره لتولي منصب محافظ بنك السودان.. أيام الفرح التي عاشها.. علاقته بالفن والغناء ولمن يستمع.. الأحداث المهمة التي شهدها وهو طالب بجامعة الخرطوم.. وغيرها من المحاور التي تجدونها في ثنايا الحوار:

} يقال إن القروض التي تقدم للدولة لم تُستغل في مكانها؟
– القروض المقدمة من المؤسسات الدولية والإقليمية مثل (البنك الدولي) و(صندوق النقد الدولي للتنمية الزراعية) و(الصندوق العربي السعودي)، هذه قروض لن نستطيع استغلالها إلا في المشاريع المحددة لها، لأن القروض لا تمنح (كاش)، وكل المشاريع القائمة كانت قروضاً.. أما القروض النقدية، فهذه تأتي لميزان المدفوعات وتُدعم بها الحكومة، والحكومة تتصرف فيها حسب أولويات الميزانية.
} متى بدأ الاقتصاد السوداني في عدم الاستقرار؟
– الاقتصاد بدأ يتدهور بعد تطبيق الشريعة الإسلامية.
} التطبيق هل هدف منه “نميري” أن يكون مخرجاً من الأزمة الاقتصادية؟
– “نميري” بدأ تطبيق الشريعة الإسلامية عن قناعة، وأذكر أنه بدأ بالقيادة الرشيدة فمنع القيادات من شرب الخمر، وبدأ يتدرج إلى أن أصدر قراره بالتطبيق وكان قراراً شجاعاً.. لا يستطيع هذا أي حاكم إلا أذا كان شجاعاً، فـ”نميري” كان شجاعاً باتخاذه لقرار تطبيق الشريعة وأغلق البارات وكسر زجاجات الخمر.
} وأنت موظف بوزارة المالية ما الذي حدّثه “نميري” عندما تولى الوزارة؟
– اذكر عندما أصبح وزيراً للمالية جمع كل القيادات، وخلال ذاك الاجتماع برزت بعض الشكاوى وقيل له إن المكاتب ضيقة، وكان (التخطيط) داخل وزارة المالية، فأصدر قراراً بترحيل التخطيط إلى مقر الحكومة المحلية التي أُلغيت، ونُفذ القرار خلال ثلاثة أيام.. وأذكر وقتها أنني كنت في رحلة خارجية مع نائب رئيس الجمهورية “الرشيد الطاهر بكر” (رحمة الله عليه)، وعندما عدت اتجهت إلى مكتبي فقيل لي: لقد تم ترحيلكم.
} هل تعتقد أن القرار كان صائباً؟
– القرار كان متعجلاً، وكان له أثر لأنه قسّم الوزارة إلى قسمين، نصف هنا ونصف هناك.
} ما أسباب الأزمات التي حدثت إبان الحقبة المايوية؟
– في أواخر الحكم المايوي الأزمات كان سببها الغرب وتطبيق الشريعة الإسلامية، فالغرب أوقف المعونة الأمريكية المتعلقة بمنحة القمح والدقيق.. وكان مخصصاً للدول النامية معونات وفق ثلاثة عناوين: الجزء الأول منحة، والثاني قرض ميسر لمدة أربعين سنة، والثالث تجاري، وكانت هناك اتفاقية بمقدار أربعين مليون دولار لاستيراد قمح تم إيقافها، ولم تفك إلا بعد انتفاضة (رجب/أبريل) 1985م، وأنا كنت شاهداً على ذلك.. المحافظ آنذاك كان “فاروق المقبول” وقد استدعاني، وعندما ذهبت إليه حدثني عن المبلغ فقلت له إنه موجود ولكن محجوز، فأخبرني بأنه قد تم فكه.
} خلال الفترة الانتقالية حدث نوع من الاستقرار الاقتصادي.. ما السبب؟
– السبب أن الحكومة خلال تلك الفترة كانت مقبولة من المجتمع الدولي والعرب، لذلك جاءت قروض نقدية، إضافة إلى المساعدات التي قدمتها بعض الدول.. وخلال تلك الفترة زارنا (صندوق النقد الدولي) بغرض معالجة الديون الخارجية.
} كم كانت وقتها؟
– ثلاثمائة مليون دولار، والصندوق توصل إلى اتفاق، لو عُمل به لحُلت مشكلة السودان نهائياً.
} ما هو البرنامج الذي اتُفق عليه؟
– وزير المالية كان وقتها السيد “عوض عبد المجيد” (رحمة الله عليه)، وقد اتفق على إجراءات مع (صندوق النقد) متعلقة بالإيرادات والمصروفات كزيادة السكر وبعض الضرائب، وكلها متعلقة بإصلاح الميزانية، لكن عندما قدمها إلى مجلس الوزراء تم رفضها.
} ما السبب؟
– السبب أن المجلس كان يعتقد أنهم جاءوا لرفع المعاناة عن المواطنين، فكيف يرهقونه بزيادة في سعر السكر والضرائب؟!
} وماذا فعل وزير المالية؟
– تقدم باستقالته.
} ماذا كان حدث لو وافق مجلس الوزراء على برنامج الصندوق؟
– لو وافق مجلس الوزراء على تطبيق برنامج (صندوق النقد الدولي) لكانت مشكلة ديون السودان قد حُلت، وما كانت للسودان أي ديون حتى الآن مع الصندوق، لكن الرفض أدى إلى تراكم المديونية حتى الآن.
} كم هي ديون الصندوق؟
– وصلت ديون الصندوق على السودان إلى مليار ومائتي مليون دولار، ولكن خلال الفترة الأخيرة الحكومة سددت جزءاً من المبلغ يقدر ما بين (300 – 400) مليون دولار.
} كيف كان وضع الاقتصاد خلال حكومة “الصادق المهدي” بعد الانتفاضة؟
– حكومة “الصادق المهدي” وقتها لم تكن مستقرة، وتغيرت أكثر من مرة، وفي تلك الفترة عاد (صندوق النقد) مرة أخرى لإجراء الإصلاحات الاقتصادية، فتم الاتفاق على برنامج محدد.
} ما نوع البرنامج؟
– البرنامج اتفق على تعديل سعر الصرف من جنيهين ونصف الجنيه إلى أربعة جنيهات ونصف الجنيه، وزيادة في سعر السكر، لكن اتحاد العمال اعترض على الزيادة فتراجعت الحكومة عن ذلك، رغم أن الحكومة كانت تضم أحزاب الأمة والجبهة الإسلامية والاتحادي الديمقراطي، فتعطل البرنامج مرة أخرى إلى أن جاءت حكومة الإنقاذ في 1989م وبدأ الصندوق في اتخاذ عقوبات ضد السودان لعدم تعاونه.
} قبل قيام الإنقاذ شهد الاقتصاد السوداني ردة وانعدمت السلع وبدأت صفوف الخبز والبنزين.. ما هي الأسباب التي أدت إلى تدهور الاقتصاد؟
– في عام 1983م قسّم الرئيس “جعفر نميري” الجنوب إلى ثلاثة أقاليم، وذلك بالاتفاق مع “جوزيف لاقو” الذي كان قائداً للتمرد قبل اتفاقية أديس أبابا، ولكن هذا التقسيم لم يعجب مجموعات جنوبية أخرى، منهم “جون قرنق”، الذي قاد التمرد في عام 1983م، فهذا التمرد واندلاع الحرب من جديد كان لهما أثر سالب على الاقتصاد وازدادت عمليات الصرف عليها، لأن الصرف على الحرب ليس له عائد على أي مشروع، فكل ما تملكه الدولة توجهه للصرف على الحرب.
} ومذكرة الجيش؟
– في أواخر الديمقراطية الثالثة كان هناك تحالف بين أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية القومية، فالخلافات السياسية بين تلك الأحزاب كانت أحياناً تعصف بحزب من الأحزاب، لذلك تقدم الجيش بمذكرته لرئيس الوزراء آنذاك “الصادق المهدي” تطالب بالرد على تلك المذكرة أو الاستجابة للمطالب التي وردت فيها، وأمهل الجيش رئيس الوزراء “الصادق المهدي” أسبوعين في ذلك إما الرد أو تنفيذ المطالبة.. ورئيس الوزراء بدأ في تنفيذ المطالب، فغير الحكومة وأبعد (ناس الجبهة)، لكن الجبهة عدّت الخطوة التي قام بها “الصادق المهدي” انقلاباً ضدها، وبدأت خطوتها التالية وهي الانقلاب على الكل، وحدث التغيير في 1989م.
} أين كان موقعك وقتها؟
– كنت أشغل منصب نائب وكيل بالتخطيط، والدكتور “سيد زكي” كان يشغل منصب الوكيل فعيّن وزيراً للمالية واختارني لمنصب الوكيل للتخطيط.. وأذكر وقتها وزارة المالية كان لها ثلاثة وكلاء، وكيل أول المالية يشغله “صلاح محيي الدين، ووكيل أول الاقتصاد ويشغله الدكتور “عبد الله العبودي” وأنا كنت أشغل منصب وكيل أول التخطيط.
} وكيف أصبحت وزير دولة بالمالية؟
– أذكر أن الأستاذ “عبد الرحيم حمدي”، وكان يشغل منصب وزير المالية، قال لي: (عايزين يعينوك وزير دولة بالمالية).
} وماذا كان ردك؟
– قلت له: (نحن ناس خدمة مدنية، وما تغلطوا غلطة الرئيس “نميري” تقوموا تشيلوا ناس من الخدمة المدنية وتعينوهم وزراء.. هذا سيفقد الخدمة المدنية الكفاءات والخبرات.. فخلونا شغالين كدا).
} ألم تكن مسيساً؟
– (أنا ما سياسي.. أنا خدمة مدنية).
} أليست لديك علاقة بالسياسة والانتماءات؟
– أنا اتجاه إسلامي منذ أن كنت طالباً بالجامعة.
} هل توليت مهاماً سياسية آنذاك؟
– أبداً.. كنت أصوت للاتجاه الإسلامي فقط، ولم أشتغل بالسياسة كثيراً، وربما كنت أميل إلى الاتحادي الديمقراطي.. كنا نقف مع الزعيم “إسماعيل الأزهري”.
} هل تذكر من جنّدك للاتجاه الإسلامي؟
– طالب يدعى “الهادي عبد الصمد”، وكان زميل دراسة معي منذ أن كنا بالخرطوم الثانوية القديمة.
} وكيف قبلت بمنصب وزير الدولة بعدها؟
– بعد ثلاثة أشهر من حديث الأخ “حمدي” معي عاد إليّ مرة أخرى وقال لي: (ما حدثتك عنه بمنصب وزير الدولة.. الجماعة باقين عليه).
} وماذا كان ردك؟
– وافقت لأني أصلاً (شغال شغل فني)، وعمل وزير الدولة لا يخلو من العمل الفني، والعمل في المجال الاقتصادي (ما فيه سياسة) ومحكوم بالمبادئ الاقتصادية المعروفة.
} ألم توجد أي أملاءات عليك؟
– أبداً.. فنحن نكتب الرأي الفني، يؤخذ به أم لا هذا لا يهمنا.
} ألم تشعر بالفرحة عند التعيين؟
– أبداً، لأن رأيي من البداية كان ألا تفقد الخدمة المدنية عناصرها، لأن أخذ الشخص سيحدث فراغاً، لذلك لم أكن مؤيداً أن يؤخذ شخص من الخدمة المدنية ليصبح سياسياً.
} كم عاماً أمضيت في المنصب؟
– أربع سنوات.

حوار- صلاح حبيب

صحيفة المجهر السياسي[/JUSTIFY]