جعفر عباس

الدوحة والدهشة والألفة


[JUSTIFY]
الدوحة والدهشة والألفة

بعد استقرارنا في البيت «المؤقت» المخصص لنا في الدوحة بساعات قليلة، قرر عيالي الذهاب إلى سوبر ماركت قريب، فأعطيتهم بعض الريالات القطرية، وعادوا بعد قليل محملين بأكياس وهم يصيحون: بابا تصدق كل الحاجات دي بثلاثين ريال.. آيسكريم وكولا وشوكولاتات وبطاطس تشبس.. ثلاثين ريال في لندن (نحو ٤ إسترليني) ما تشتري سندويتش بيض!! فوجدتها أمهم مناسبة لتقليب المواجع: دي الحاجات ال«حرمكم» منها البابا جعفريستوس الأول، لما ركب رأسه وقرر ترك الدوحة والعمل في بي بي سي في لندن.. وكانت على حق إلى حد ما، فلندن من أغلى عواصم العالم، وفيها وكما يقولون في السودان عند الدعاء على أحد «تأكل ما تشبع.. تشرب ما تروى»، وبالتالي لم نكن نأكل ونشرب كما نشتهي، أو كما اعتدنا في الدوحة أو الخرطوم.

وفي اليوم التالي لوصولنا إلى الدوحة، أيقظتني في ساعات الفجر الأولى أصوات بدت لي غريبة ومألوفة في ذات الوقت… أرخيت السمع فتسللت إلى أذنيّ: الله أكبر.. حي على الفلاح… ياه.. كم من الدهور مرت من دون أن أسمع الآذان؟ ثم توجهت إلى مقر عملي في «اتصالات قطر-كيوتل»، واستقبلني الزملاء والزميلات بترحاب صادق، وأتوا بكميات مهولة في فطائر الجبن والسبانخ واللبنة التي ظللت محروما منها طوال سنتين، (لم تكن المطاعم العربية قد انتشرت وقتها وبائيا في لندن كما هو الحال اليوم، وكانت منطقة بيزووتر هي المستوطنة العربية الوحيدة في المدينة، ولكنني لم أكن أذهب إليها إلا لشراء بعض مواد البقالة «الشرقية» من دكان مملوك لعربي، ولم أكن أصطحب معي عيالي عند الذهاب إلى هناك لأنهم كانوا يصرون على أكل الشاورما التي تكثر المطاعم التي تعدها وتبيعها هناك، وقد ساءت علاقتي بالشاورما عندما سألت جزارا في أبو ظبي عن سر وضعه الشحوم التي يزيلها من لحوم الزبائن في برميل منفصل عن بقية المواد التي يزيلها والتي كان يلقي بها جميعا في برميل منفصل، فقال إنه يبيع الشحوم لتجار الشاورما لأنهم يضعون كتلة من الشحم بين كل شريحتي لحم، وتلك معلومة كانت غائبة عني لأنني أصلا لست زبونا للوجبات السريعة سواء كانت شرقية أو غربية، ثم حكى لي صديق كيف أنه كان في زيارة لعاصمة عربية، ونشأت مودة بينه وبين صاحب مطعم في أسفل العمارة التي كان يقيم بها، فكان يقضي جزءا من اليوم يتآنس معه، وذات مساء ذهب إلى المطعم وسأل عن صاحبه، فقالوا له إنه مشغول في الجزء الخلفي من المطعم في أمر ما، فذهب إليه وقوبل بالترحاب، وفوجئ بالرجل يمسك بالسيخ الحديدي الرفيع الذي يتم تركيب شرائح الشاورما فيه، وبعد أن يضع بضع شرائح من اللحم والشحم يضع قدميه الحافيتين على جانبي السيخ ليضغط بهما الشرائح إلى أسفل، لتظل متماسكة وتفسح المجال لمزيد من الشرائح).

وعدت إلى البيت بعد انتهاء الدوام (ولا أعرف كيف تم فبركة هذه الكلمة لتعني «ساعات العمل المقررة») وتناولت غداء خفيفا وأمسكت بصحيفة وشرعت في قراءتها و… فجأة انتبهت إلى شيء يعوق تنفسي، ووجدت الجريدة تغطي كل وجهي والظلام يلف الغرفة.. بسم الله الرحمن الرحيم.. ماذا حدث؟ اكتشفت أنني نمت نحو ثلاث ساعات.. يا الله.. لم أنعم بقيلولة صاحيا أو نائما طوال عامين في لندن بسبب القلق والأرق الذين كانا يلازمانني فيها.. والنوم نعمة لا ينعم بها إلا من هو مرتاح البال والجسد.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]