الطاهر ساتي

محاذير الألفية الثالثة..!!


محاذير الألفية الثالثة..!!
** إذا أردت أن تعرف مدى تحضر أي مجتمع، فانظر إلى أنديته وما فيها من أنشطة، وإلى شوارعه وما عليها من لافتات، وإلى مجالس أهله ومن يتحاورون فيها، وإلى فضائياتهم وإذاعاتهم وما تبثها من إعلانات وبرامج، وإلى صحفهم وما تحملها من حوادث وقضايا، وإلى مركباتهم العامة ومواعيد ذهابها وإيابها من وإلى المحطات الرئيسية، وإلى صالات الوصول والمغادرة بالمطارات والموانئ، وإلى تاكسي المدينة وأُنس سائقها.. تلك – وغيرها – بمثابة لوحات ناطقة، وأياً منها يكفي لإبراز عقل المجتمع، إن كان في القاع قابعاً على ركام الجهل أو كان فوق القمة محلقاً بأجنحة الوعي..!!
** تلك محض خاطرة راقتني ذات مساء، فوثقتها.. وما ليست بخاطرة هي ما تنشرها صحف الخرطوم – منذ أسبوع ونيف – من محاذير تعد عند الآخرين من الغرائب.. إعلان تحذيري لإدارة شرطة المرور بالخرطوم، وإعلان آخر تحذيري أيضاً لوزارة الصحة بالخرطوم أيضاً.. ممنوع غسيل العربات على أرصفة الطرق، ممنوع استخدام الصافرة والموسيقى الصاخبة بقرب المدارس والمشافي، ممنوع فتح محلات التمباك بقرب المطاعم والكافتيريات، ممنوع التدخين في المركبات والمشافي والأماكن العامة، ممنوع بيع التمباك والسجائر لما دون سن الرشد، ممنوع استخدام الأطفال في زراعة وبيع التمباك والتبغ، وممنوع.. وممنوع..، وغيرها من المحاذير التي يجب أن يتجاوزها المجتمع بفطرة الوعي، وليس برهبة القانون..!!
** كيف يكتسب المجتمع فطرة الوعي؟.. فلنقرأ هذا النموذج.. حكيم خرج بطفله الشقي من صخب المدينة إلى وديان تحيطها الجبال.. وأثناء السير، تعثر الطفل ووقع وتألم، ثم صرخ وارتد إليه صدى الصرخة.. نسى الطفل ألمه، وشرع يسأل الفراغ : من أنت ؟، فرد صدى صوته: من أنت ؟.. فانزعج الطفل، وسأل الفراغ متحدياً بحدة: بل أنا من أسألك من أنت؟، فرد الصدى بذات الحدة والتحدي: بل أنا من أسألك من أنت؟.. فغضب الطفل، وصاح في الفراغ: أنت جبان، فرد عليه الصدى: أنت جبان.. وقبل أن يتمادى الطفل في الغضب والشتائم، تدخل الأب بحكمته طالباً منه بأن يخاطب المتحدث – الصدى – بعبارة: أنا أحترمك.. فاستجاب الطفل وخاطب الفراغ بوقار: أنا أحترمك، فرد الصدى بذات الوقار: أنا أحترمك.. فراقه هذا، فخاطب الفراغ قائلاً: أنت رائع، فرد الصدى: أنت رائع.. ذُهل الطفل، إذ لا يعرف مصدر الصوت، وكذلك لا يعرف سر تحول لهجته وأسلوبه، فسأل والده عن هذا الشيء وعن سر تحوله إلى الأفضل.. فأجاب الحكيم: هذه ظاهرة طبيعية، وعلماء الفيزياء يسمونها بالصدى، ولكنها – في الواقع – هي الحياة، فالحياة لا تعطيك إلا بمقدار ماتعطيها، وكذلك لا تحترمك إلا بمقدار احترامك لها.. قالها الحكيم هكذا، وعاد بالطفل الشقي إلى المدينة، ولم يعد شقياً، إذ ظل يتعامل مع وقائع الحياة وشخوصها كما تعامل معه ذاك الصدى: أنا أحترمك، أنت رائع..!!
** وأي مجتمع يتم تحذيره جهراً عبر الصحف – في الألفية الثالثة – بمثل تلك التحذيرات وغيرها من شاكلة (لا ترمي القاذورات في الشارع)، كان طفلاً على مهد زمن مضى، وكان بحاجة إلى قيادة رشيدة تذهب به إلى وديان العلم والمعرفة، ليكتسب وعياً يقول للناس والحياة بياناً بالعمل : (أنا أحترمكم، أنا أحبكم، أيها الرائعون).. ولكن للأسف، لم يجد هذا المجتمع رشد تلك القيادة عندما كان طفلاً، إذ شب على اللامبالاة وشاب عليهما.. ولذلك ليس في الأمر عجب أن صار ضاجاً بمن يغسلون عرباتهم على الأرصفة، وبمن يبيعون التمباك بقرب المطاعم، وبمن يستخدمون الأطفال في زراعة وحصاد وبيع التمباك والتبغ، فتحذرهم شرطة المرور ويعاقبهم قانون الصحة.. فالقيادة المطالبة بالرشد الذي يرشد المجتمع – منذ فجر استقلانا وحتى فجر نهارنا هذا – تبحث عن السلطة والثروة، تاركة المجتمع – أطفالاً وشباباً – في بحر (اللا مبالاة) أو مستنقع (الجهل).. ولذلك، أي لأن القيادة كانت ولاتزال في واد والمجتمع في وادٍ آخر، لم – ولن – يفارق الحال العام بالبلد محطة (ممنوع التبول هنا بأمر السلطات)..!!.

إليكم – السوداني
[email]tahersati@hotmail.com[/email]