البديهيات والطناش ……. (1)
يهلّ علينا عام جديد بعد أسابيع معدودة، ويقترن قدوم العام الجديد عند الغربيين باتخاذ قرارات مهمة مثل الإقلاع عن التدخين او المسكرات، أو إكمال دراسة انقطعت أو القيام بمغامرة – مثلا – زيارة حوض نهر الأمازون أو دارفور.. وتحفل الصحف الغربية بتقارير ومعلومات عن الجديد المرتقب في السنة الجديدة في مختلف المجالات، ولصحيفة التايمز اللندنية ملحق صحي أسبوعي بعنوان «الصحة الطيبة»، وفي أحد أعدادها الذي يضمه أرشيفي، نشرت الصحيفة بضع نصائح تتعلق بالصحة العامة معظمها قد يبدو بديهيا، ولكن المشكلة التي يعاني منها الكثيرون، هي أننا نعرف بداهة ان هناك أشياء وممارسات ضارة بالصحة ومع هذا نزاولها او نتعاطاها، وأن هناك أشياء ضرورية للصحة والعافية ولكننا نتجاهلها.. لا يحتاج حتى الأمي إلى طبيب يقول له ان التدخين ضار بالصحة، ومع هذا تجد ملايين المثقفين والمستنيرين وبينهم أطباء يدخنون ويستخدمون التبغ بديلا للبخور.. نعرف ان المشي هو أبو جميع أنواع الرياضة، وهو متاح للغني والفقير والذكر والأنثى، وقد يضع بعضنا برنامجا ثابتا للمشي، ولكن نفس هؤلاء البعض غير مستعدين للمشي أكثر من عشرين خطوة بعد مغادرة سياراتهم، ويظلون يلفون ويدورون بسياراتهم الى حين العثور على «موقف» قريب جدا من المكان الذين يودون الذهاب اليه.. هم غير مستعدين للمشي من السيارة الى ذلك المكان، (رغم اقتناعهم بأن المشي مفيد للجسم) لأنه مشي خارج «برنامج الرياضة المحدد»! ومن محاسن الفقر أنه يرغم المصاب به على الحركة الدائبة، لأنه لا يملك ترف التنقل بالسيارة، ولأنه مضطر إلى الجمع بين أكثر من مهنة تتطلب مجهودا عضليا، والبحوث الطبية شاهدة على أن أمراض القلب والأوعية الدموية أكثر شيوعا بين المترفين، لأن التخمة أكثر فتكا بالصحة من الجوع، وكنت يوما ما أدخن نحو ستين سيجارة يوميا.. من أسوأ أنواع التبغ.. سجائر من النوع الذي يفرقع وينفجر في وجهك ربما لأنه يحوي قطعا من الفحم او الخشب القابل للاشتعال.. سجائر تنطفئ فتضطر الى إشعالها عدة مرات لأن النار عجزت عن اختراق حجر صغير محشور بين ثنيات التبغ الرديء.. وصار صدري يكركر مثل أكورديون قديم تعبث به أنامل عازف مبتدئ.. ولجأت الى الحيل المعتادة لمن يزعمون أنهم يرغبون في التوقف عن التدخين بينما الواحد منهم في قرارة نفسه «متأكد» من أنه لو امتنع عن تعاطي التبغ فسيموت خلال يومين، فتكون الحيلة هي تقليل عدد السيجارات اليومية.. أو تدخين نوع يقال ان محتواه من النيكوتين والمواد الأخرى السامة ضئيل.. أعطيت نفسي ترقية وصرت أدخن 40 حبة من السجائر المستوردة والقليلة الدسم.. ولكن حتى الضحك صار يرهق صدري.. ما العمل؟ كيف تستقيم الحياة بدون تبغ؟ لا شك أنني سأرتكب جريمة لو أقلعت عن التدخين، أو على أقل تقدير سأطرد من العمل لأنني قد أقول رأيي الصريح في مدير متغطرس وأنا «خلقي ضايق» بسبب التوقف عن التدخين.. وبعد مناورات استغرقت سنوات، صحوت ذات صباح وكان عندي في البيت نحو مائة سيجارة موزعة على خمس علب، فأمسكت بها وهرستها وألقيت بها في دورة المياه.. كان ذلك قبل ثمان وعشرين سنة، ولم ارتكب جريمة، ولم أمت بسبب الحرمان من التبغ، ولم أفقد وظيفتي.. وقد يراني البعض ممسكا بين الحين والآخر بسيجارة.. الذنب ليس ذنبي بل ذنب قرناء السوء (وهذا كأن ترتكب معصية عامدا ثم تقول ان إبليس هو المسؤول عنها).
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]