تحقيقات وتقارير

مشاهد من صومعة الفرح المؤجّل.. حكاوي الدهاليز القصيّات في رديسون الإثيوبي


[JUSTIFY]لنبدأ من النهاية؛ كانت الملاحظة أن فندق رديسون أصبح شبه محجوز لمدى أسابيع لأطراف النزاع المتقاتلة في دولتي السودان؛ الحديثة والأم، فأثناء لملمة شنط وعفش أعضاء وفدي التفاوض الشماليين، إيذانا بخروجهم من باحة الفندق الفخم، كانت أدوات السحب تجر من خارج الفندق عفش وشنط الوفد الجنوبي بشقّيه المعارض والحكومي. الأمر أدهش الموظفين في رديسون، فقائمة الإجراءات لم تخل من اسم السودان. شاب إثيوبي يعمل موظفا في سكرتارية الفندق وضعت أمامه قائمة تحمل ذات الاسم، وفدي التفاوض في دولة جنوب السودان”، مما جعله يصاب بحيرة واستغراب لكونه أنهى لتوّه إجراءات مغادرة وفد التفاوض، الرجل ربما لضآلة معلوماته وثقافته السياسية الإقليمية سأل بفضول بالإنجليزية ما معناه: “وفدا المفاوضات السودانيين سيغادران الفندق، ولماذا نبدأ إجراءات جديدة لوفد سوداني مفاوض؟” كان يقف بجواره سوداني قال له: “الذين غادروا هم وفد التفاوض لدولة السودان والآن يبدأ وفد التفاوض لدولة جنوب السودان”، فما كان من الشاب الإثيوبي إلا أن “قال بسحروكم يا جماعة”!

الشارع الإثيوبي جلّه غير مهتم بما يجري في بلدهم من حوارات وتفاوض لوفود أجنبية، ولا يمثل لهم الأمر سوى مصدر دخل إضافة لكونه يحرك عجلة الاقتصاد، سيما لسيارات الأجرة والفنادق، لكن سائق تاكسي إثيوبي أبدى شيئاً من الأسف للحال الذي وصلت إليه دولة الجنوب، شعرت من كلمات الرجل بأنه لم يكن يتوقع أن يتصارع إخوة الأمس في جوبا بعد نضال مشترك طويل.

ثمة حماس كان باديا في عزيمة الوفدين عند بداية الجولة سيما في اليومين الأول والثاني بعد التئام الجلسات المباشرة، ومع ذلك يبدو الغموض مسيطرا على تفكير الناس.. غموض يتخلص مضمونه حول الكيفية التي يفكر بها الطرف الآخر، وبالتالي كانت الاجتماعات المباشرة فرصة لاكتشاف وتحسس المواقف وبواطنها، وهي محاولات تأتي من الأطراف لبناء مواقف أكثر قوة انطلاقا من نقاط ضعف الآخر او نقاط قوته.. بينما اتضح أن المفاوضات هي فن التعامل وفقا للاستراتيجيات.

من خلال المتابعة لاحظت أن الذي يتم خارج القاعات الرسمية أكثر مما يتم بداخلها، فالحديث بين قيادات الوفدين بصورته العفوية ما هو إلا جزء من مسار المباحثات، لكونه يتيح للأطراف فرصة لمعرفة التفكير الإيجابي منه والسلبي بعيدا عن محاضر التسجيل ورصد الكلمات.. وهذه الطريقة في تقديري نجحت إلى حد كبير في تغيير الصورة النمطية في تفكير البعض من الطرفين فمثلا النظرة الحكومية لأعضاء الحركة ما هم سوى متمردين خرجوا عن طوق الدولة، وبالعكس ينظر القطاع للحكومة من زاوية أنهم ظلمة لا يريدون وجود الآخر.

في الجلسات المباشرة يأخذ الحديث طابعا رسميا ويستصحب معه المواقف المعلنة، وتمارس الأطراف ضبطا لمخارج الكلمات والحروف حتى لا تفلت كلمة ربما تغير من المسارات الموضوعة.. جلسة وحيدة خرج منها الوفدان والابتسامة تعلو الوجوه بصورة لافتة، لكنهم امتنعوا عن التصريح ربما خوفا من إفساد هذا الجو، فالجلسة بحسب البعض كانت منداحة إلى أقصى درجة من الصراحة الوضوح، تلك الجلسة قال ياسر عرمان إنه أدارها لجهة أن إبراهيم غندور أدار الجلسة التي تلتها، غير أن لقاء النهاية أداره غندور، فعرمان جزم بأنه نجح في إخراج جلسته بشيء من التقارب، الرجل أكد أنه استخدم القفشات والمزاح حتى لا ينحرف الاجتماع عن مساره، تلك الجلسة تحدث فيها كل أعضاء الوفدين بصورة صريحة، وقالوا كلاما لو استمرت الأطراف عليه لوصلت إلى حلول ولما علقت المفاوضات، فعلى سبيل المثال، تعلن الحركة لأول مرة ربما أنها يمكنها أن تتخلى عن حلفائها في الجبهة الثورية في حوارها مع الحكومة.. لكن عرمان اتهم غندور بإفشال الجلسة التي أدارها، وكان منطقه أن غندور سار في ذات المسار الذي سلكه هو عندما طلب فرصة مبكرة ولخص فيها مواقف الحركة..

عرمان رأى أنه كان على غندور أن يتجاوز موقفه الذي اعتبره وفد الحكومة يحمل قدرا من التناقض، وبحسب عرمان كان على غندور أن يواجهه بما قاله في الجلسة التي سبقت، وهو أمر على أقل تقدير يضمن استمرار الجلسة المباشرة، غير أن لوفد الحكومة رأيا آخر وهو أن عوامل خارجية أثرت في تفكير عرمان وجعلته يتغير مائة وثمانين درجة.

مقر المفاوضات يعج بأجهزة المخابرات والأمن العالمية، كل من يجلس حولك هو ليس برجل عادي، مما يفسر عدم خضوع الحوار بين الحكومة ومعارضيها لإرادة الطرفين وحسب بل العوامل الخارجية موجودة وبقوة، فمثلا الولايات المتحدة الأمريكية عبر مبعوثها لم تفارق المقر للحظة، فدونال بوث ظل طيلة أيام التفاوض موجودا يجتمع بالطرفين بصورة متكررة، أيضا كان أليكس دي وال، الرجل المثير للجدل جالسا في باحة الفندق طيلة الأيام السبعة، وهناك مناديب من الاتحاد الأوروبي وكذلك مصر بالإضافة إلى إثيوبيا البلد المضيف.. كل منهم يحمل رؤيته الخاصة بالمفاوضات والوجهة التي ينبغي أن تسير عليها، وبخلاف اللقاءات العلنية هناك ما يتم في الخفاء.

الآلية الأفريقية ليست حريصة على وجود الصحافة والإعلام هناك، لتقدير البعض منهم أن الصحفيين يساهمون في “فركشة” التفاوض، لكنها لم تستطع أن تقول ذلك صراحة، ويطابقها رأي وفد الحركة الشعبية الذي يعتقد بعض أعضائه أن الصحفيين الموجودين من الشمال في مقر التفاوض ما هم إلا أفراد يتبعون لجهاز الأمن السوداني، يمكن أن ترصد مدى الحذر الذي يبدونه في تعاملهم مع الصحافة سيما في الأيام الأولى، سألت أحد قيادات الحركة: لماذا نظرتكم دائما لنا هكذا؟، قال باقتضاب: “نحن متمردون حتى وإن ارتدينا الزي المدني، وبالتالي لا نثق كثيرا في أي شخص يأتي مع الحكومة”، قلت له: “البعض جاء بطريقته الخاصة” لكنه لم يقتنع البتة.

انعكس موقف الحركة من الصحافة في متابعة ما يكتب في الصحف عن التفاوض يأتيهم رصد كامل يوميا من صحف الخرطوم، وكانوا يبلغون الآلية به، وبالتالي أصبحت الحركة اكثر قناعة بأن وجود الإعلام غير مفيد لاعتقادها أنه يعمل ضدها وينقل عنها السلبيات، مما دفعها إلى تقديم شكوى للآلية، وخاطبت الأخيرة عبر سكرتاريتها الصحفيين بموقف الحركة، وقالت لهم: “نحن يهمنا راحة الوفد وليس راحتكم”، وهو أمر ينبئ بأن الآلية الإفريقية في إمكانها أن تمنع وجود الإعلام هناك، لكن من الملاحظات أيضا أن القنوات الفضائية لم تضع المفاوضات في دائرة اهتمامها بخلاف قناتي الشروق والميادين، وهذا ربما نتج من طبيعة أن إثيوبيا دولة رغم أنها تبدو مفتوحة ولكن ثمة تعامل بحذر مع الإعلام المرئي، يضاف إلى ذلك أن الكثيرين لم يكونوا يتوقعون استمرار الجولة لأكثر من يومين.

الورقة الإطارية التي سلمتها الوساطة إلى الطرفين، حصلت (اليوم التالي) على نسختها بعد أقل من ربع ساعة من انتهاء مؤتمر امبيكي الصحفي، ولكن توجيهات وفد الحكومة بعدم نشرها جعل الصحيفة تلتزم، ولا أعلم هل سمحت الحكومة لبعض الصحف بالنشر ومنعت أخرى أم أن الأمر لا يخرج من إطار الشطارة..

من الملاحظات أن وفد الحركة لم يكن راضيا عن ورقة امبيكي فأحدهم قال عندما سألته عن رؤيتهم للورقة: “أنا لم أقرأها ولا أريد أن أقرأها لأننا نتفاوض مع الحكومة وليس امبيكي”، الرجل وهو من القيادات الرفيعة في وفد الحركة قال لي: “أريد أن أحملك رسالة مفادها ـ وهنا أقسم بالله ثلاث مرات وقال ـ نحن نريد سلاما وجادون في الوصول إليه ولكن ليس بالطريقة التي يفكر بها المؤتمر الوطني”، وأضاف: “بذات الجدية نحن يمكن أن نقاتل الحكومة عشرين عاما أخرى

آدم محمد أحمد: صحيفة اليوم التالي [/JUSTIFY]