الحكمة والغباء في دنيا السياسة
بالقطع هناك نخب أخرى في مجالات غير سياسية ، وتتكون تلك النخب من الصفوة في مجتمعاتها غير السياسية ، وتتألف من الأفراد المتميزين والمبرزين في تلك المجتمعات ، كالعلوم والفنون والفكر والدين والصحافة والإعلام وغيرها ، وتتمتع تلك النخب بقدر عال من السلطة المعنوية ، وتكبر تلك السلطة كلما كان تأثير الفرد من تلك النخب أوسع في محيطه الاجتماعي ، مثل الذين يتولون أمر الدعوة أو الخطاب الديني أو يقودون البيوتات الدينية والطرق الصوفية مثلما هو حادث في بلادنا ، لذلك تحاول النخب الحاكمة أو الساعية للحكم استمالة النخب الأخرى وقياداتها لتكون رافدًا لها أومكوناً من مكونات دائرتها المؤثرة .
النخب السياسية الذكية تعمل دائماً على تجديد أفكارها بما يلائم العصر ويتماشى مع المرحلة ، وإلا فإن اجترار وتكرار ذات الأفكار لفترة طويلة سيصرف العامة عنها لأن خطابها غير متجدد ولا يخاطب الأجيال الجديدة ، ولنا أمثلة ونماذج عديدة في ساحات عملنا السياسي ، أحزاب بدأت عملاقة نجدها الآن إما تمزقت أو تقزمت أوتقسمت أوأصبحت من ذكريات الماضي السياسي ، فعدم التجديد لن يقود الأحزاب إلا الى ما حصلت عليه دائماً ، أيّ نفس الأفكار القديمة لا غير .
التغيير كما نعلم جميعاً يعني التجديد والحيوية ، ويعني إنتاج مراحل جديدة حتى وإن قامت على ذات الأفكار التي نشأت عليها الأحزاب أوالتنظيمات السياسية ، والتغيير الذي أعلنه حزب المؤتمر الوطني الحاكم الآن في بلادنا اصبح برنامج عمل الحزب في المرحلتين الحالية والمقبلة للنظام والذي من خلاله سيضمن استمرارية محتملة لعدة سنوات إذا ما ارتضى خصومه الانتظار في أرصفة التمني والأحلام بأن يسعى اليهم كرسي الحكم سعياً وهم في أماكنهم لا يتقدمون. وحتى هذا التغيير قد يجد الرفض من بعض منسوبي الحزب الحاكم نفسه ،أو من بعض قياداته ، التي تحجرت أفكارها وثقلت أقدامها في بلاط السلطة ، فأصبحت لا تريد الانتقال من مكان الى آخر، وهو ما قد يكون فيه خير كثير لهم ولغيرهم .
الذين تحجرت أفكارهم وتسمرت أقدامهم في بلاط السلطة، يخشون كلمة(التغيير قولاً وفعلاً ، فقد استمروا السلطة ، ومكاسبها ، لذلك يصبح التغيير أمرًا مجهولاً لبعضهم ، والإنسان عدو ما يجهل عادة حتى وإن كان له في ذلك خير كثير ، ونضرب لذلك مثلاً انه وحتى نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي تقريباً كانت سويسرا ضابط زمن العالم من خلال هيمنتها على صناعة الساعات ، وكان أن أعلن عدد من العلماء السويسريين عن اختراعهم لما يسمى بحركة الساعة الإلكترونية في مدينة(نوشتل) لكن اختراعهم ذاك قوبل بالرفض المدجج بمنطق(حاضر) ذلك الزمان ، حيث رأى أصحاب مصانع الساعات أن هذا الاختراع الجديد لن ينجح، ولا يمكن أن يكون هو ساعة المستقبل،لأن الساعة الجديدة تعمل بالبطاريات ، وليس لديها (زنبرك) لملئها أو ضبط الوقت عن طريقه، كما هو معمول به واعتاده الناس ، وليس للساعة الجديدة تروس بالداخل ، باختصار رفضوا(التغيير)، لتجييء شركة (سايكو) اليابانية وتفوض مندوبيها لمشاهدة هذا الاختراع الجديد وتقييمه بعد أن رفضه أصحاب مصانع الساعات السويسريون في مؤتمر الساعات العالمي الذي انعقد عام 1968، وتبنت الشركة اليابانية الفكرة والاختراع لتسيطر بعد ذلك على سوق الساعات العالمي .
وقصة الكمبيوتر ليست ببعيدة عن قصة اختراع الساعات الإلكترونية ، إذ أن أول شركة اخترعته وهي شركة(يونيفاك) الأمريكية ،رفضت التحدث عما صنعته لرجال المال والأعمال ، بدعوى انه جهاز خاص بالعلماء ليست له أية تطبيقات متصلة بالأعمال، فدخلت شركة ( أي بي ام IBM) ومن بعدها شركة ( أبل Apple) في الخط ليصبح الكمبيوتر أو الحاسوب أداة أو وسيلة لا يكاد شخص من بين كل عشرة أشخاص في العالم أن يستغنى عنها ، بدءًا من استخدامات الهواتف الجوالة، وانتهاءاً باستخدامات الكمبيوتر اللوحي، الذي يعتقد كل من يستخدمه انه صُنِّع خصيصاً من أجله شخصياً .
الحكمة تقتضي أن نتقبل أمر(التغيير) واقعاً حتمياً،لأن هذه سنة الحياة الماضية إن قبلنا أورفضنا ، وعلينا أن نتعامل بالحكمة لأنه لا دائم إلا وجه الله . على الجميع أن يفتحوا الأبواب والنوافذ ليدخل ضوء الشمس والهواء الجديد الذي يحمل أفكارًا جديدة ، وعلى الذين يرفضون التغيير بعد إزاحتهم من مراكز اتخاذ القرار، ومواقع السلطة والحكم ألّا يهاجموا التجربة الكاملة التي كانوا جزءًا منها ، لأنهم إن فعلوا ذلك فإنما يبصقون على تجربتهم وماضيهم، وكل مستقبلهم إن كانوا يعلمون .
صحيفة آخر لحظة
ت.إ[/JUSTIFY]