جعفر عباس

التكنولوجيا هزمت التآنس


[JUSTIFY]
التكنولوجيا هزمت التآنس

أتمنى أحيانا لو ان التقدم التكنولوجي الذي أدى ويؤدي الى طوفان من المخترعات يتوقف بعض الوقت، فالمخترعات الحديثة تجردنا شيئا فشيئا من الكثير من الممارسات والقيم، بل وتجرد حياة البشر من «الطابع الإنساني»،.. خذ مثلا ما فعله بنا التلفزيون والانترنت والهاتف الجوال.. تجلس عائلة بأكملها امام شاشات التلفزيون نحو ساعتين مثلا ويكون كل الكلام المتبادل بينهما تلغرافات من نوع: بعدين.. هس…لا يا حمار! بات فن الكلام مهددا بالاندثار، ولن أنسى ما حييت دعوة الى العشاء في بيت صديق سعودي زرته لأول مرة.. كنا نحو عشرة أشخاص وكانت تلك أول مرة التقي فيها معظمهم.. وكانت هناك مباراة بين ناديي الهلال والنصر.. ومن بين الأشخاص العشرة لم يكلف نحو خمسة منهم حتى مجرد عناء إلقاء التحية علي.. وكانت عيون الجميع مسمرة على الشاشة، وكان كل واحد منهم يكلم نفسه: وش هذا يا غبي… فاول يا حكم يا أهبل.. لا تخلي الجناح الأيمن يسرح بكيفه… ما نريد اقل من 3 أهداف نظيفة!! وانتهت المباراة ولا أذكر من نتيجتها سوى المعركة الكلامية التي دارت بين الحضور، وابو الجعافر جالس مثل الطرطور، مجرد شاهد ما شافش حاجة.. وحتى بعد أن جلسنا حول مائدة الطعام امسك أحدهم برأس خروف ليشرح كيف أضاع لاعب هدفا «مضمونا»، ولم يحس أحد بوجودي إلا بعد ان استأذنت منصرفا فتعالى الصياح: ما يصير يا ابو الجعافر.. ما سولفنا وياك!! فقلت لهم: إن شاء الله نسولف لما الهلال او النصر يهزم ريال مدريد!!
ومع هذا فلا عتاب ولا ملامة، لأن العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة أيضا صارت تلغرافية.. هذا مشغول بالتلفزيون وتلك تتلاعب بأزرار الهاتف الجوال وكأنها تبحث عن أيمن الظواهري، الذي قال الامريكان ان من يدل عليه سيحصل على 10 ملايين دولار، في زمن صار فيه اصطياد ابناء آدم أكثر عائدا ماديا من صيد الفيلة والنمور! وهناك الانترنت الذي حلّ محلي في البيت!! ففي ما مضى كنت المستشار الأكاديمي والسياسي والاجتماعي والصحي لعيالي، أما اليوم فقد اكتشفوا ضحالة معلوماتي مقارنة بغوغل وويكيبيديا ومكتبات أمازون.. وياما جاهدت كي اغرس في عيالي حب القراءة وشجعتهم على ارتياد المكتبات، وساعدتهم في اختيار الكتب والمجلات، ولكن كل ذلك فعل ماض ناقص، وكلما عاتبتهم على عدم القراءة قالوا: ما عندنا وقت!! والساعات التي تقضونها امام التلفزيون والانترنت «وقت» أم «مساحة»؟ تقترح عليهم تناول وجبة مّا في موعدها، فيقول لك احدهم انه لن يأكل حتى يفرغ من مشاهدة برنامج تلفزيوني معين، ويقول الآخر: معي طارق على الخط في المسنجر أو الواتساب أو الفايبر .. أعطوني سندويتش! والجوال أصلا هاتف ووظيفته هي ان يكون اداة تهاتف أو مهاتفة أي كلام، ولكنه صار أداة لقتل الكلام.. زوجتك ليس لديها الوقت لالقاء التحية عليك ثم طلب ما تريد، ومن ثم فانها ترسل اليك رسالة قصيرة: احضر معك ألفين ريال.. وبعشرة قروش خس!! وحتى قبل سنوات كنا نقتل الوقت خلال ساعات العمل بزيارة بعضنا البعض لممارسة الحش والنميمة في المدير ورئيس القسم، ولكننا صرنا نمارس تلك الأشياء بالبريد الالكتروني.. وصرنا نقتل الوقت بلعب الورق خاصة السوليتير على الكمبيوتر! وفي بريطانيا اصدرت مؤسسة تسمى «آي كان» وتعني «أستطيع» ان الكثير من الصغار باتوا عاجزين عن التعبير عن أنفسهم، لأن الكبار من حولهم ساهون ولاهون، ولا يبادلونهم الحديث، بل يشجعونهم على العبث بالأجهزة الالكترونية التي حلت محل الأصدقاء والأقارب.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]