تحقيقات وتقارير

«الإنقاذ» .. على وتر مشدود بين جسرين

[JUSTIFY]تزامن في الربع الأول من القرن الماضي نشأة أربع آيدلوجيات تسعى للحكم الأحمر الذي ينتمي لفكر محدد أكثر من انتمائها الى أوطانها وتسعى للتمدد والانتشار في دول تتعدى حدود أوطانها- ودولتها التي نشأت فيها بمثابة مركز الإشعاع والتوجيه- هذه الآيدلوجيات أو الأفكار هي: الشيوعية- النازية- الفكر البعثي ثم حركة الاخوان المسلمين ومراكزها كانت روسيا- المانيا- العراق وسوريا ثم مصر.. والقواسم المشتركة لهذه الآيدلوجيات الأربع أولاً نشأت في حقبة زمنية واحدة- ثانياً التضحية الكاملة من أجل المبدأ السامي- ثالثاً: عدم الايمان بحدود جغرافية لنشر الفكر.. رابعاً: الولاء لقيادة الحزب أو التنظيم أكثر من قيادة الدولة..

وأخيراً اعتماد دولة النشأة كمركز اشعاع لنشر الفكر الأممي ومرجعية سامية ونهائية لتوجيه الحكم حتى يكون متسقاً في كل الدول المستهدفة-كل هذه الآيدلوجيات نشأت كردة فعل للاستغلال الاقتصادي الرأسمالي والاستعمار السياسي والثقافي للدول الضعيفة خاصة في افريقيا والشرق الأوسط- ثلاث من هذه الآيدلوجيات استطاعت أن تحكم وتنشر فكرها خارج أوطانها لكنها لم تنجح في الاستمرار- الشيوعية في الاتحاد السوفييتي وقبضتها الحديدية ومحاولة فرض طبقة بعينها تحت شعار المساواة المطلقة غير المنطقية والتي أدت الى ضعف وانهاك الدولة حتى زال الاتحاد السوفيتي، وعاد الى دويلاته السابقة في العام 1975- النازية وفكر سيادة الجنس الآري بقيادة هتلر أدى الى الحرب العالمية الثانية، ودمار وتفكك أوربا وانهيار المانيا القوية وزوال النازية- الفكر البعثي فشل في دولتيه- العراق وسوريا في كسب جماهيرهم العريضة وكسب العالم الأول حتى تم التدمير الكامل على الصعيدين البشري والمادي حتى اليوم في سوريا والعراق اللتين انعدم فيهما الأمن والأمان بصورة مأساوية.

بذلك سقطت وانتهت ثلاث من الآيدلوجيات الأربع وانهارت أنظمتها وأفكارها ولم يبق من الأربع آيدلوجيات إلا حركة الاخوان المسلمين، فهم منتشرون منذ إنشاء الحركة في حوالي 1929 على يد الإمام حسن البنا في مصر وحتى اليوم ولم ينهار فكرهم، وقد ساعدهم في البقاء الممتد بعد انهيار الآيدلوجيات الثلاث الأخرى والتي ولدت معهم في نفس الحقبة الزمنية، ساعدهم في ذلك عاملان.. العامل الأول أن حركة الأخوان المسلمين، ومنذ نشأتها لم تحكم حتى نهاية القرن العشرين بصورة كاملة إلا في السودان ولفترة عشر سنوات من 1989-1999 بدأت بعدها تغييرات جذرية في سياسات الحركة الإسلامية السودانية وبداية انعتاقها السلس من فكر الحركة التقليدي الجامد والمعادي لكل من هم خارج الحركة، وبدأت أيضاً خطوات براقماتية (عملية منتجة) بفتح الباب لإدارة البلاد تحت حزب لا يحمل في اسمه مضمون الحركة وهو حزب المؤتمر الوطني، والذي يضم في عضويته ما لايزيد عن 20% من منسوبي الحركة الإسلامية العالمية والباقين خارج الحركة الإسلامية، بل تواصلت خطوات الانعتاق من براثن الحركة الإسلامية العالمية حتى هذه اللحظات والتي تشهد انفتاحاً أكثر على اشراك أفراد وأحزاب خارج منظومة الحركة الإسلامية العالمية، وقد تفضي هذه الاتصالات والتحاور مع أحزاب وجماعات الى مزيد من الإضعاف للآيدلوجية الرابعة هذه تعيد السودان الى توازنه السياسي داخلياً وخارجياً وفترة الحكم الثانية لحركة الأخوان المسلمين منذ إنشائها كانت في مصر ولمدة عام واحد في 2012م تولى فيها تنظيم الاخوان المسلمين إدارة مصر بصورة كاملة أدت هذه الإدارة في تلك الفترة القصيرة الى ثورة الملايين من المصريين، حتى انحاز الجيش المصري القوي المتماسك لرغبة الشعب المصري وتولى السلطة وسطع نجم قائد الجيش المشير السيسي وأفل نجم رئيس جمهورية مصر المنتخب وممثل حركة الاخوان المسلمين، وكل قادتهم الآن في السجون وتم إعلانهم رسمياً في مصر بأنهم تنظيمٌ إرهابيٌ تجب محاربته، وسوف يتولى المشير السيسي رئاسة مصر منتخباً في نهاية مايو القادم، وستستمر محاربة التنظيم بصورة أعنف- العامل الثاني في استمرار الآيدلوجية الرابعة هذه- حركة الاخوان المسلمين- هو اعتمادهم على الدين وجعله المادة المحورية لتنظيمهم، والدين له مكانة خاصة وسامية لدى شعوب المشرق، فكان هذا العامل الثاني النفسي الذي يحترمه ويقدسه أفراد تلك الشعوب- الدولة التي انعتقت سريعاً من إحدى هذه الآيدلوجيات الأربع حدث بها استقرار مطلق أدى الى تنمية سريعة، وذلك في الصين والتي سارت في ركب الشيوعية إبان ثورة (ماو تسي تونج) الثقافية، وبعد أن تخلت الصين في فترة وجيزة عن الشيوعية وسارت في خطوات مغايرة للشيوعية السوفييتية تقدمت حتى صارت من أقوى ثلاث دول في العالم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، ولم يبق من الشيوعية فيها إلا الاسم، وأصبحت دولة أقرب الى الرأسمالية- الدولة الثانية التي تحررت من احدى تلك الآيدلوجيات ونسبياً هي تونس، والتي قادت فيها حركة الاخوان المسلمين بقيادة راشد الغنوشي مع الأغلبية الأخرى من الشعب التونسي ثورة الياسمين أولى ثورات الربيع العربي- تحررت قيادة الاخوان المسلمين- ولو مؤقتاً وتكتيكياً- من التطبيق الصارم لمرتكزات حركة الاخوان المسلمين العالمية، وشاركت في الحكم بمرونة متناهية ذكية قادت تونس الى الاستقرار، تاركة دول الربيع الأخرى غارقة في الفوضى والدماء في سوريا واليمن وليبيا.

نحن الآن في السودان وقد بدأت قيادة الدولة في نهج سليم واقعي وعملي للخروج الناعم من الأفكار الجامدة مستلهمة الدروس والعبر السالبة والإيجابية في كل من مصر وتونس ومستصحبة الضغوط المحسوبة بدقة على النظام من كل الجبهات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية- بالرغم من كل هذا التوجه الإيجابي فإن الإنقاذ ما زالت تسير في طريق وعر وقد شارف الطريق الوعر هذا الى نهايته عند جسرين أحدهما يقود الى المواصلة في نفس الطريق الوعر بين جبال عالية وهاوية على جانبيه، والجسر الآخر يقود الى طريق معبد خالٍ من المطبات وفي سهول تنعدم فيها الهاوية.

الجسر الأول وتشرف على إدارته دول ترتبط بها الإنقاذ أخلاقياً وأعمدته الحركة الإسلامية العالمية.. والجسر الثاني معادٍ للحركة الإسلامية العالمية تشرف عليه دول إسلامية معتدلة قوية متماسكة ودول من العالم الأول، وأعمدة هذا الجسر من غالبية الشعوب المنادية ومطالبة بالأمن والأمان والعيش الكريم.

أعود لأذكر القارئ الكريم بما قاله الفيلسوف ديفيد رسل:

(The hardest thing to learn in life is which bridge to cross and which to burn)

(أصعب شيء يمكن أن تتعلمه في الحياة أي جسر تعبر وأي جسر تحرق) الصعوبة هذه بالنسبة لحكومة الإنقاذ تكمن في الظروف المعقدة التي أدت الى وضع الإنقاذ أمام خيارين متعارضين- الأول ينطوي على التزام أخلاقي فكري ورد جميل كما قال الراحل المقيم محجوب شريف عندما أشرف شعب السودان على علاجه في الخارج، وعاد يلهج بالشكر.. ورد الجميل الثاني ينطوي على مفارقة ولو مؤقتاً وتكتيكياً لفكر ودول ارتبطت الإنقاذ بهما.. ولكن اختيار الإنقاذ للجسر الذي تعبر يكمن في قول الحق عز وجل:«لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ» صدق الله العظيم.

وُسْعَنا نحن السودانيين أن نعبر الجسر الثاني، وعلى أصحاب الجسر الأول أن يعذرونا مع مراعاة فروق الوقت والعصر والظرف والقوة بيننا وبينهم.

فأي الجسرين تعبر الإنقاذ علماً بأنه لا يمكن عبور الجسرين في وقت واحد ولو على دفعات وبالتقسيم.

والله الموفق.

صحيفة آخر لحظة
تقرير : مهندس : عمر البكري آبو حراز
ت.إ[/JUSTIFY]