جعفر عباس

الصحفيون والســــــير على العجين


الصحفيون والســــــير على العجين
[JUSTIFY] تعاني الصحافة العربية عموما ضعفا في ناحية التقصي والتحري في سياق ما يسمى بالتحقيقات، ليس لقصور في الجانب المهني ولكن بسبب «الله يجازي اللي كان السبب» وهكذا إذا تم تكليف صحفي بإعداد تحقيق عن النشاط في ميناء بحري – مثلا- فإن أول ما يفكر فيه هو الاتصال بأكبر رأس في ذلك الميناء، ليزوده بالدرر من إحصاءات وحقائق، ثم يلتقط صورا جامدة لرافعات وحاويات، ثم ينشر الموضوع الذي لابد ان تتصدره صورتان أو أكثر لذلك الرأس الأكبر تحت عناوين مثل «ارتفاع الطاقة الاستيعابية للميناء من ثلاث حاويات يوميا العام الماضي إلى ثلاثة آلاف حاوية».. وتفهم فورا ان الرأس الكبير لم يكمل سنة في وظيفته هذه، ويريد ان يعطي الانطباع بأن سلفه كان يستخدم الميناء لتجارته الخاصة ولكنه كان يسمح بمناولة الحاويات الثلاث درءا للشبهات.. لا يفكر الصحفي الذي كلف بذلك التحقيق في التسلل خلف الشاحنات والرافعات للتحقق مما إذا كانت هناك شحنات وسلع لا تخضع للتفتيش والجمارك، ولا ما إذا كانت هناك رافعات معطلة رغم انه تم استيرادها قبل أشهر، ولا ما إذا كانت مكاتب موظفي الميناء خاوية او خاملة أم تمور وتفور بالنشاط! لا يعني هذا ان ذلك الصحفي ضعيف مهنيا أو جاهل بأصول التحقيق الصحفي، بل يعني أنه اختار درب السلامة، وأن التجربة علمته أن كشف الحقائق يجعل ظهره مكشوفا ويعرض «أكل عيشه» للخطر.. خلال الحرب العراقية الايرانية التي اشتعلت عام 1980 كنت اعمل محررا في قسم الأخبار الخارجية في صحيفة خليجية، وجاء خبر من وكالات رويترز واسوشيتد برس ويونايتد برس عن اختراق كبير للقوات الإيرانية في قاطع البصرة في جنوب العرق، وبكل براءة (أي عباطة) وضعت الخبر في موقع بارز على الصفحة الأولى، ويبدو ان ذلك لم يعجب السفير العراقي، (ومعروف ان 99% من الصحف العربية كانت منحازة للعراق في تلك الحرب)، فهدد وتوعد وطلب نفي الخبر في عدد اليوم التالي، واستدعاني المدير العام للمؤسسة التي كانت تصدر منها الصحيفة واتهمني بفبركة الخبر، وأمرني أن اقوم شخصيا بكتابة نص تكذيب واعتذار ينشر باسمي فكتبت ما معناه «في ما يتعلق بخبر تحقيق القوات الإيرانية اختراقا جزئيا في جنوب العراق والذي ورد على وكالات الأنباء كذا وكذا، وكذا، فإنني لا أملك دليلا على صحة ما أوردته الوكالات الثلاث»،… وقرأ فخامة المدير ذلك النص واتهمني بالعمالة لإيران وإسرائيل والاتحاد السوفييتي وتنزانيا.. وأمر بحرماني من راتب أسبوع.. كان المسكين يحمي ظهره بطعني في ظهري.. فحقيقة الأمر هي ان الرؤوس الكبيرة في الصحف تتعرض لضغوط أكبر بكثير مما يتعرض لها صغار الصحفيين، بل في مجال الصحافة تكون المقولة الشائعة «يسويها الكبار ويروح فيها الصغار معكوسة» لأن رؤساء ومديري التحرير يتحملون عواقب ما يرتكبه الصحفيون الصغار والارتكاب هنا لا يعني بالضرورة خطأ أو جرما… وخرجت من تلك التجربة بقرار الخروج من الصحافة المكتوبة، بمعنى عدم العمل لدى أي مؤسسة صحفية بدوام كامل.. ولا يعني هذا أنني «شجاع».. بل يعني انني تعلمت المشي على حبل السيرك دون أن أسقط، (وقد يكون هذا في حد ذاته سقوطا)!!

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]