(توتي) تنهي عقوداً من العزلة :الدخول إلى (عروس النيل) بعد العاشرة مساء
حان الموعد لكي يدخل الزائرون إلى جزيرة توتي في أي الاوقات، فالمعدية العتيقة التي أدمنت التوقف عند العاشرة مساء يومياً، أصبحت ذكرى من ذاك الزمن الجميل، بعد تدشين الجسر الجديد الذي يربط توتي – الخرطوم، وبذلك يبدأ فصل جديد من علاقة اهالي الخرطوم والجزيرة التي فضل اهلها لسنوات طويلة إخاء النهر على مجاورة العاصمة، فيما النيل نفسه يعتبر «عروس النيل» حائطه القصير الذي يتسلقه كلما عن له ذلك.
ولأول مرة ، يدخل في وقت واحد أمس عدد كبير من الناس الى الجزيرة التي يعيش فيها نحو 20.000نسمة في تلائم وحميمية مفردة، إضافة الى عدد هائل من المركبات العامة والخاصة، وفي سابقة من نوعها سيكون لتوتي بعد افتتاح الجسر موقف مواصلات خاص ضمن المحطة الرئيسية التي اوشكت على الانتهاء غرب الميدان الشهير بـ» جاكسون».
لكن على توتي أن تستعد لدفع ضريبة الحداثة والتنمية، إذ اعرب عدد من السكان تحدثت اليهم» الصحافة» أمس عن خشيتهم من تغيير التركيبة السكانية والنسيج الاجتماعي، وأن تحمل مع الجسر عادات وتقاليد جديدة للجزيرة التي ظلت تتشبث ببداوتها وتفتخر بعزلتها الاختيارية.
ودفعت مجاورة النهر بمخاطره وكرمه وبخله وصغر رقعة المجتمع، أهالي الجزيرة إلى تواصل وتعاون وتكافل مميز طبع حياتهم الاجتماعية وانسحب على باقي مناحي الحياة ومنها الشكل العمراني العام للجزيرة الصغيرة، حيث اتسم الطابع العمراني بالتلاحم الحميم في غالبية مبانيها الطينية وبعضها المشيد من «الطوب الأحمر» ذات الطابق الأرضي والطرقات الملتوية الضيقة التي تهتم بتوجيه المباني مع ارتفاع نسبي لجدران البيوت، وتبنى تلك الجدران على أساس من الحجارة الصلدة حتى تقاوم المياه عند تدفقها على أرض الجزيرة حينها يفيض النيل وكي تواجه «النز» التي تتعرض له جراء موقعها في قلب النهر.
مع ذلك فإن القضية المرتبطة بالجسر ليست ثقافية فقط؛ إذ يتوقع أن يعيد الجسر، جدلا أستمر لسنوات طويلة يتعلق بتعويضات الأهالي عن أراضيهم التي أمتدت اليها عمليات تشييد الجسر، ودعا في هذا الخصوص الصادق عمر رئيس اللجنة الشعبية للجزيرة، إلى تعويض المتضررين، وتخطيط الجزيرة، التي تحتاج حسب مهندسو المدن الى سبعة طرق وثلاث ساحات، اضافة الى تسجيل الاراضي « ملك حر» دون سداد فرق التحسين الباهظ «حوالي 75% من القيمة الاجمالية»، والغريب ان ممثل اهالي الجزيرة الذي تحدث في احتفال امس لم يطالب باعادة نادي توتي لكرة القدم الذي اوقفه الاتحاد العام من اللعب في الدرجة الاولي تايدا لقرار اتحاد الخرطوم الخاص بآن يلعب الفريق في الدرجة الثانية الامر المرفوض من قبل ادارة النادي.
وقال الرئيس عمر البشير في احتفال تدشين الجسر أمس إن توتي لن تصبح الاولى في الخرطوم فقط، وانما من افضل المناطق في دول العالم، وروى قصة عن معاناة اهل الجزيرة قبل تشييد الجسر، عندما وقعت حادثة غرق شهيرة لمركب كانت تحمل جثمانا في الطريق عبر النهر لإكمال مراسم الدفن بالخرطوم بحري.
ويعتقد بعض الأهالي أن الحرص على إكمال الجسر من قبل حكومة ولاية الخرطوم التي يرأسها عبد الحليم المتعافي، بسبب موقع الجزيرة السياحي، وشوهد خلال حفل افتتاح الجسر عدد من المستثمرين العرب وسفراء بعض الدول العربية والاجنبية.
وأستغرقت عمليات أنشاء الجسر ست سنوات من التصاميم الهندسية وأعمال الخرسانة والردميات والرصيف، بتكلفة بلغت ستة عشر مليوناً وثلثمائة ألف دولار امريكي بربط الخرطوم بجزيرة توتي بطول مائتين وعشر أمتار، بالاضافة الى مائة متر كباري جانبية وخمسمائة وثمانية وعشرين متر ردميات مساندة، بينما بلغ عرض الكوبري عشرين متراً ليتسع لأربعة مسارات خاصة بالسيارات ومسارين للأفراد، وبلغ ارتفاع الكوبري ثلاثين متراً عن سطح الأرض، وضم برجين بارتفاع خمسة وعشرين متراً لرسم لوحة جمالية على مداخل الكوبري.
وتروي حكاوي المواطنين القدامي أن الحكومة في عهد الرئيس الاسبق جعفر نميري قد طلبت (50%) من أراضي الجزيرة مقابل تخطيطها وفق دراسات عمرانية متطورة باعتبار أن الجزيرة معلم سياحي متفرد، ولأنها أرض زراعية يمكن زراعة مساحتها غير أن أهالي وسكان توتي رفضوا ذلك معتبرين أنهم أصحاب الجزيرة وحراسها لأكثر من 500عام.
كذلك تعرضت الجزيرة إلى العديد من المحاولات المختلفة لترحيل أهاليها بغرض الاستفادة من موقعها في الاستثمار السياحي والزراعي لما تتميز به أرض الجزيرة من خصوبة وقرب المورد المائي منها إلا أن جميعها باءت بالفشل بسبب تمسك السكان بها باعتبارها الوطن الأم الذي لا يمكن التفريط فيه.
ويتحدث بعض أهالي الجزيرة عن صراعات قديمة بين أهالي توتي والسلطات الحكومية بدأت منذ عام 1924م ضد المستعمر الإنجليزي الذي حاول ترحيل سكان الجزيرة إلى منطقة أخرى بحجة أن المنطقة معرضة للفيضانات، غير أن أهالي توتى وقفوا ضد تلك القرارات ببسالة شهدتها «حوادث 1944م» المعروفة والتي استبسل فيها أهالي توتي دفاعاً عن وطنهم وارثهم العريق.
ويتوقع تجار العقارات والاراضي ان يرتفع عدد الراغبين في الحصول على عقارات او قطع ارض بالجزيرة بعد افتتاح الجسر، مما سيدفع بالاسعار الى الارتفاع بشكل غير مسبوق، وابلغ « الصحافة» علاء الدين أبو كفة وهو صاحب محل يعمل في مجال العقارات بالخرطوم، أنه تلقى كثيرا من الطلبات حول هذا الامر، خاصة من قبل رجال اعمال ومستثمرين يعتزمون أنشاء اعمال سياحية بالجزيرة.
وجزيرة توتي لا تتعدى مساحتها الكلية 990 فداناً تزيد وتنقص مع فيضان النيل في حالة المد والجزر.
وينتمي أغلب أهل الجزيرة إلى قبيلة واحدة وهم يشكلون نسيجاً اجتماعياً متشابكاً يأخذ طابع الأسرة الواحدة ، ويقول أهل الجزيرة إن جدهم من قبيلة الخزرج النجدية المعروفة، وأن نسبه ينحدر من صلب الصحابي الجليل أبي بن كعب الخزرجي الأنصاري، ويقولون إن أجدادهم «العظماء» نزحوا مع قبيلة المحس إلى شمال السودان ثم وفدوا لهذه الجزيرة الصغيرة في القرن الـ 13الميلادي واستقروا فيها، لموقعها الآمن من وحوش الغابات التي كانت تغطى ما يعرف الآن بالعاصمة المثلثة
وكان لعلماء توتي دور عظيم في نشر الصوفية، حيث انطلق من الجزيرة الشيخ ارباب العقائد وأنشأ الخلاوي ومسجدا بالخرطوم. ومع نار العلم التي أوقدها هذا الشيخ بدأ عمران الخرطوم، وهكذا الحال في مدينة أم درمان التي ارتحل إليها الشيخ الولي خوجلى أبو الجاز وكذلك حينما ارتحل الشيخ ادريس ود الأرباب لمدينة العيلفون.
وتتضارب الروايات والقصص حول اسم جزيرة توتى، حيث تقول إحدى تلك الروايات على لسان الاستاذ الجامعي ماهر عز الدين الذي تحدث لـ» الصحافة» أمس على هامش احتفال افتتاح الجسر امس، ان اسم توتي يعود إلى امرأة معروفة عاشت هناك لفترة طويلة حينما كانت الجزيرة تعيش فيها قبيلة العنج المشهورة في تاريخ السودان.
بينما يقول المؤرخ الراحل بروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم في كتابه «تاريخ الخرطوم» إن اسم توتي مصدره كلمة «تؤتي اكلها» وهي الرواية الأكثر شيوعاً وقبولاً لدى الناس باعتبارها – كما جاء في نفس المصدر – بأنها منطقة زراعية مشهورة بإنتاجها للخضروات والفواكة وكل أنواع المنتجات الزراعية ولخصوبتها.
ودخلت خدمات المياه توتي عام 1964م والكهرباء عام 1966م بقرار من الرئيس الأسبق إسماعيل الأزهري، وحينها حاول بعض المستثمرين من خارج السودان الاستثمار السياحي في توتي وزارتها العديد من الشركات السياحية أبرزها الشركة الصينية غير أن أهل الجزيرة رفضوا هذا الأمر.
وتفتخر توتى بأبنائها من الشخصيات الوطنية والسياسية والأدبية والرياضية والعلمية التي كان لها دور بارز في تاريخ السودان القديم والمعاصر، فقد انجبت البروفيسور داؤود مصطفى الذي قدم للطب في السودان خدمات لا تنسى، والذي يعتبر أقدم طبيب سوداني تخرج في أول دفعة من كلية «غردون» سابقاً جامعة الخرطوم، وابن المنطقة الفريق حسان عبدالرحمن وزير الدفاع الوطني السابق، وشخصيات وطنية وسياسية أمثال الدكتور مضوى مختار والسيد عبدالحميد عشم الله وشخصيات أدبية أمثال الشاعر المعروف مصطفى طيب الأسماء وشخصيات رياضية أمثال أمين زكي لاعب فريق الهلال سابقاً، وغيرهم كثيرون انجبتهم جزيرة توتي ووضعوا بصماتهم على خارطة التاريخ في هذا الوطن.
«اَه يازمان»، تأوه أحدهم مساء أمس الاول وكان قادما للتو في اخر رحلة « معدية» من الجزيرة النائمة في احضان النيل، الى قبالة قاعة الصداقة، وكنت وقتها قريبا منه، وصادفت الاحتفالات التي بدأت مبكرا بافتتاح الجسر عبر الالعاب النارية التي كانت تضئ سماء الخرطوم المشغولة هذه الايام بتداعيات قرار محكمة الجنايات الدولية، وسفر البشير، والسعي وراء الأرزاق.
خالد سعد: الصحافة