تحقيقات وتقارير

محاولة “تنقيب” في “سبل كسب العيش بالسودان”: لماذا يبدو بعضها مجافياً للطبيعة وفي غياب أيّ معنىً للكرامة الإنسانيّة ناهيك عن ترف السؤال حول شروط السلامة


[JUSTIFY]قال عبد الباقي محذراً وسط ضحكاته، ونحن نتسلق كومة ضخمة من النفايات: “لن يكون لما تحصل عليه قيمة إذا انتهى بك الأمر ميتاً في هذا المكان”. كان عبد الباقي يقصد مقدار الخطر الذي يدهمني لو انهد تحتنا جبل النفايات المحترق من الداخل، أو علم أحدهم بهويتي الصحفية في هذا المكان. لكن الأمر كان مثيرا للفضول والحزن والاشمئزاز، وشيء من الغرابة أيضاً؛ ولا يمكن استيعابه. ففي مردم النفايات التابع لـ “طيبة الحسناب” بمحلية جبل أولياء تنشأ واحدة من أخطر وأغرب سبل كسب العيش، وأكثرها مقدرة على الحط من قيمة الإنسان. إذ أن البحث عن لقمة الرزق يدفع المئات من الشبان بوجوه شرسة ويجرجر العشرات من النساء الشاحبات، وحتى أطفال، قادمين من مناطق مختلفة، إلى حشر أنفسهم كعمال يوميات داخل أكوام النفايات العملاقة، التي تلتهمها النيران في المردم المخصص لنفايات ولاية الخرطوم.

يبحث الأطفال والنساء عن أشياء تؤكل أو تباع، إلى جانب أنهم مساقون بالوهم الكاذب الذي يقرب لهم إمكانية الظفر بالمهمل والمنسي من المقتنيات غالية الثمن، نظير اقتسامه مع أصحاب العمل المنتظرين خارج جبل النفايات. حيث تنشط فرق العمل والأفراد منذ الصباح الباكر في استرجاع نسبة هائلة من النفايات، لفحصها واختبار جدواها. يحدث ذلك الكسب المجافي للطبيعة في غياب معنى الكرامة الإنسانية. وكذلك، انعدام أدنى شروط السلامة من الحريق والمرض، ومن المرجح أن تعود الحرفة على ممارسيها بالعاهات المستديمة أو الموت الشنيع كضربة لازب، أكثر من كونها مشقة محتملة لجلب الرزق الشحيح.

وقد نشأ حول المردم الذي يبلغ طوله 10 أمتار سوق مفتعل، قوامه رواكيب كالأعشاش، خصصت لستات الشاي وبائعات المكيفات والأطعمة الرخيصة. وتكومت على أطراف المردم زكائب كبيرة، وضعت بداخلها النفايات المأمول إعادة استخدامها للمرة الثانية.

وعلى مدى 8 أعوام، هي عمر المردم، استقبل في مكانه شرق طيبة الحسناب، أطنانا من النفايات البلاستيكية والأدوات الطبية المختلفة، والزجاج المكسر والسلع الاستهلاكية الفاسدة، وغير ذلك من الأوساخ غير القابلة للتدوير. يقول دليلي عبد الباقي، وهو يشير إلى دفار الشحن المتحرك أسفل جبل النفايات: “يقوم تجار نبش النفايات باستئجار مثل هذا الدفار وعربات جر النفايات الحكومية لحمل بضاعتهم إلى الخرطوم مجدداً”. ويومئ بيده في نصف دائرة ليشير مرة أخرى إلى النساء والأطفال المستأجرين للنبش في النفايات كعمال يوميات.

وتشمل البضاعة المرتجعة التي يحصلون عليها: السلع الفاسدة من النوع الجاف، كالبسكويت والمعكرونة والشعيرية، إلى جانب الفارغ البلاستيكي لعبوات المياه الغازية ذات الاستخدامات المتعددة، وكذلك الملابس، وغير ذلك من المقتنيات شبه التالفة، إضافة إلى الاستفادة القصوى من الدجاج النافق الذي توفره المزارع التي نهضت حديثا في المنطقة، وقد نشأ لهذه التجارة سوق رائج في حي الإسكان الشعبي التابع لضاحية الكلاكلة.

ولا ينجو سوق قوامه المقهورون من الانفلات الأخلاقي.. فهناك براح لبيع الخمور والمخدرات، ومبررات نفسية هائلة للعنف الذي تفرضه مهمة ذات عائد شحيح في بيئة نفايات فقيرة. وبالفعل، يشير السكان المقيمون حول المردوم إلى حدوث حالات حريق وجرائم قتل حدث بكميات كبيرة. يقول محمد أحمد نور الدين إن أكثر من 6 أشخاص لقوا مصرعهم في المردم. فيما يروي عبد الباقي قصة سطو حدثت لشقيقه وهو يقود سيارته في وضح النهار.

يقول أحدهم وهو يجر جوالا لالتقاط الأشياء ويشير بيده: “نحن نعمل هنا ونسكن في ذاك البيت”. ثم لا يجد رغبة في مواصلة الحديث، فيجر جواله ويمضي مطأطأ الرأس تتبعه مظاهر الإعياء والإرهاق.

صحيفة اليوم التالي
أ.ع[/JUSTIFY]