عبد اللطيف البوني
سمعت وشفت وجابوه لي
اخخخ لو وجدته أمامي!
صديقنا السواق الماهر/ عبد الرافع استمع مصادفة لأغنية الراحل خوجلي عثمان (خت الملامة عليّ ارمي الملامة عليّ خلو الملامة علىُ لوم الاحبة جراح / زاد الأسى الفيني وشال من ملامي الراح ….) الخ فاندمج معها ونسي العالم من حوله وبعد نهاية الأغنية سكت برهة ففاضت الدموع من عينيه وأخذ يقسم بالله والطلاق قائلا: (لو لقيت الزول الكتل خوجلي دا إلا أكتله خنق بس) حدث هذا بعد مقتل خوجلي عثمان بحوالي عامين. تذكرت قصة صديقنا عبد الرافع هذه بعد أن فرغت مباشرة من قراءة كتاب (رحلتي مع سودانير, خلال ثلاثين عاما 1947 -1977 ) لمؤلفه السيد/محمد الأمين الأمير وهو شقيق أستاذ الأجيال البروفسير عز الدين الأمين ومحمد الأمين مواليد 1919 أمد الله في أيامه ومتعه بالصحة والعافية والكتاب يقع في 71 صفحة ولكنه عظيم المحتوى حكى فيه المؤلف تجربته مع سودانير وبما أنه من مؤسسيها الأوائل الحقيقيين فالكتاب يعتبر تاريخا لنشأة وتطور الخطوط الجوية السودانية وياله من تاريخ شكلا ومضمونا فمن حيث الشكل جاء الكتاب الذي نحن بصدده صادقا وأمينا وكل معلوماته من مصادرها الأولية فليس من رأى كمن سمع وما بالك عندما يكون الراوي أي المؤلف مدونا في يوميته الخاصة كل ما يخص عمله منذ أن كان موظفا صغيرا الى أن أصبح مديرا لسودانير في 1967 ولمدة عشر سنوات. أما من حيث المحتوى فالكتاب يثبت أن سودانير هذه لم تأت بهينة، إنما جاءت بفكر وعمل وجهد وسهر وتضحيات ويحكي الكتاب كيف أنها تطورت من الدوف الى الفوكرز الى الكوميت الى البوينج لا بل كيف كان السودانيون يهابون الطيران وكيف أن محمد الأمين ورفاقه علموهم ركوب الطائرات وكيف نشأت سودانير في كنف الشركة البريطانية ثم تبعت للسكة حديد وكيف فرزت عيشتها وكيف كانت تتم التعاقدات وكيف تعلم السودانيون قيادة الطائرات. كيف علموا غيرهم من الأمم. إن قصة سودانير كانت قصة نجاح حقيقية قصة تحكي عظمة أمة وعبقرية نخبة. غايتو أنا ماعارف ولكن والله العظيم والله العظيم والله العظيم ساعة فراغي من الكتاب لو وجدت الشخص الذي بدأت معه قصة نهاية سودانير لتعلمت فيه خنق البشر لأنني لم يحدث أن خنقت إنسانا ولم يخنقني إنسان، بس من فضلكم شوفوا لي الزول دا واقعدوا فراجة. (2)
صباح 25 مايو 1969
في بداية الأسبوع قبل المنصرم مرت علينا الذكرى ال44 لثورة مايو أي ظهور نميري على مسرح السياسة السودانية وقد أعادني ذلك التاريخ الى مرحلة الصبا الباكر حيث كنا بمدرسة كاب الجداد الوسطى ويومها كانت من مدارس السودان المشهورة واستيقظنا على المارشات العسكرية وبعد قليل سوف نذيع عليكم بيانا هاما من القوات المسلحة فترقبوه (مساكين اولاد اليومين ديل لم ولن يسمعوا بمثل هذا ) فهرعنا الى أجهزة الراديو القليلة التي يملكها الأساتذة فالداخلية كلها بها راديو واحد وبعد أن ارتفعت الشمس وأصبح الوقت ضحى أذاع النميري وبابكر عوض الله بيانات الانقلاب (الثورة) ثم ذكرت أسماء الوزراء التي تضج بالحمرة, فاروق ابوعيسى وموريس سدرة وطه بعشر وآخرون ولعل هذا يذكرك ببيت صلاح احمد ابراهيم المشهور (سوف أتركها بلادي نيلها ما عاد كوثر/ ارض موريس وبعيسى وبعشر / وكل تلك النفايا التي خلفها المعسكر) رحم الله من سلف وأطال عمر من بقي فقد كان صلاح موتورا من الحزب الشيوعي بالمناسبة ياجماعة الخير من لديه نص قصيدة صلاح المشار إليها هنا أرجوه أن يسعفني بها فقدر ما بحثت وقوقلت فلم أعثر عليه، افتكر مافي داعي نشرح حكاية المعسكر فالدنيا جمعة. عودة الى موضوعنا فبمجرد سماع تلك الأسماء صاح أستاذنا عبد الباقي مدرس اللغة العربية والأخ المسلم قائلا: (لا يمكن لحكومة شيوعية أن تحكم السودان المسلم، بعد قليل سوف يصل الدم الركب في الخرطوم وأنا من هسي ماشي والماشي معاي يلا وراي) فصاح فيه أستاذنا عثمان الفال اليساري والذي كاد يطير من الفرح يومها: (ياعبد الباقي انت جنيت ولا شنو داير تسوق ليك شفع توديهم وين؟ لو عاوز تكاتل امشي براك دي الثورة الكان منتظرها كل الشعب السوداني). والحال هكذا ذهبنا الى ناظر المدرسة وهو الأستاذ عوض حسن احمد شاعر أغنية صغيرتي التي يغنيها عبد العزيز داؤد وكان شيوعيا ثوريا أي مناصرا للتجربة الصينية الماوية وكارها للسوفيتية فوجدناه يحمل الردايو الترانسزتر الصغير مرتديا جلبابه الأنصاري فسألناه أن يفتينا في الحاصل فقال لنا الثورة إذا ما قام بيها الزول الراكب الحمار داك أنا ما بسميها ثورة مشيرا لمزارع راكب حماره مر أمامنا في طريقه للحواشة- دا كله صراع سلطة بس وما تسمعوا كلام الفال ولا كلام عبد الباقي). رحم الله أستاذنا عوض وأستاذنا الفال والرحمة مصولة لأستاذنا عبد الباقي. رحل أم كان باقيا فقد كانوا جميعا على مختلف مشاربهم السياسية أساتذة أجلاء عظماء ربونا فأحسنوا تربيتنا ولن ننسى فضلهم علينا ما حيينا. (3)
السوداناوية
الشاب المذيع عماد البشرى في إذاعة المساء (هل نقول لصاحبها حسين خوجلي؟) يقوم بحوارات رائعة وممتعة جدا مع أعلام ونجوم مجتمعية تؤكد أن عماد يعد برنامجه إعدادا جيدا ويذاكر دفتر ضيفه جيدا قبل الجلوس أمام المايكرفون فاللأسف الشديد الكثير من شباب الإذاعات والتلفزيونات لا يعرفون عملية الإعداد ولا يجلسون مع الضيف إلا أمام المايكرفون لذلك تأتي برامجهم بغير فائدة ومتعة وهذه قصة أخرى.
واحدة من روائع عماد تلك كانت مع السفير المفكر السوداني والاستاذ الجامعي الدكتور/ نور الدين ساتي إذ كانت حلقة في غاية الفائدة والمتعة فنور الدين من السودانيين الفرانكفونيين القلائل ولعله من سوء حظ السودان أن عدد الفرانكفونيين فيه قليل جدا ولا يقارن بالانقلوفونيين وهذه قصة أخرى. نور الدين هو الذي صك مصطلح السوداناوية وقبل اربعين سنه تقريبا ولا شك أنه كان متأثرا فيه بمصطلح الزنوجة بتشديد النون- الذين ابتدعه إيمي سيزار وسنغور وغيرهم ومن خلال الحلقة أيقنت أن العمل الدبلوماسي السوداني والافريقي والأممي قد أخذ الأستاذ نور الدين فقد أتقنه وأبدع فيه ولكن يبدو لي أن هذا كان على حساب نور الدين المفكر. كيف سيكون الحال لو أنه فرغ جزءاً من وقته لتطوير فكرة السوداناوية التي ابتدعها قبل اربعة عقود؟ والله العظيم لكان حال السودان اليوم حال لأن الفكر هو الذي يقود الحياة السياسية وليس العكس والسوداناوية هذه فكرة عميقة وكان يمكن أن تكون أداة توحد في التنوع. كان يمكن أن تكون عمود استقطاب لكثير من المتناثرات السودانية وليت سعادة السفير يوليها اهتماما أكثر وهو يستمتع بحياة معاشية هادئة ومريحة ونترحم هنا على أستاذنا الراحل احمد الطيب زين العابدين الذي بذل فيها جهدا عظيما ومقدرا. أعجبني في حلقة نور الدين ما قاله عن سنغور وكيف أنهم في شبابهم كانوا يعتبرونه عميلا فرنسيا بينما يراه الآن وطنيا مخلصا لبلاده. مثل هذه المراجعات يقوم بها أحيانا أستاذنا عبد الله علي ابراهيم وهي قصة تحتاج لوقفة ووقفات. (4)
صاحبة الصفيحة
مرت علينا كذلك في الاسبوع قبل المنصرم الذكرى الثامنة لرحيل الفنان العظيم ابراهيم عوض صاحب أعذب وأشجى الأغاني في المكتبة الغنائية السودانية وهذه الذكرى تعود بي الى قصة إعجابي بهذا الفنان الذي سيطر على وجداني وأصبح يكبر في دواخلي كلما امتد بي العمر فما زلت أذكر ذلك اليوم الذي كان فيه عمري عند السابعة او أقل وكنت أركب رديفا على حمار خلف خالي فتوقف عند الكبري بضم الكاف ليسقي الحمار فترجل وبقيت أنا خلف السرج وصادف في ذات الوقت أن كانت هناك شابة من بنات قرى العمال جاءت ترد الماء جالسة عند حجر الكبري متخذة من صفيحتها التي تأخذ بها الماء إيقاعا وهي تغني بصوت شجي وعربية مكسرة (يازالم ياداير لو تدي الحقيبة…) أسرني النغم وأخذت أردده طوال اليوم والأيام التالية فلصق بذهني ولم تفارقني صورة الفتاة وهي تغني وبعد فترة من الزمن قد تمتد لشهور كان الكبار من أهلي يتحلقون حول الراديو ذي البطارية أمام دكان والدي كعادتهم ولم أكن مهتما يومها بما يبثه الراديو من أخبار وغناء لأن هذا شغل كبار ولكن فجأة انتبهت الى الراديو الذي أخذ يبث أغنية موسيقاها كانت على ذات النغمة التي سمعتها من صاحبة الصفيحة ذات النغمة المحفورة في دواخلي والفنان يغني (اصبر خليهو الأيام بتوريهو) والموسيقى (ترررلا تترررا ترررلا تتارا) والجميع منصتون وكأنهم في حالة خشوع وفيما بعد عرفت أنه إبراهيم عوض وكان المقطع الذي تقصده صاحبة الصفيحة (ياظالم ياجائر لوتدري الحقيقة / ألوان من عذابك ما قادر اطيقها / يكفيني عذاب وانساك أنا لو أعرف طريقة) وهي إحدى روائع الفنان الشاعر الملحن العسكري الطاهر ابراهيم ثم تمضي بنا الايام وبعد اكثر من اربعين سنة تقريبا من يوم صاحبة الصفيحة كنت امام ابراهيم عوض بشحمه ولحمه وهو يستقبلني في بيته قائلا وبلحن (بزيارتك بيتنا نور ياما نور كله زينا…) ثم يضيف ( يااخي وين انت انا روحي عاوزة تمرق في شوفتك وقلت لعلم الدين داعلم الدين حامد — لو عاوز تعمل معاي صالة عرض لازم تجيب لي الزول دا ولو من تحت الارض) فترد دموعي له التحية وبعد خمسين سنة من يوم صاحبة الصفيحة أجد نفسي جالسا وجها لوجه مع الطاهر ابراهيم شخصيا وهو يحكي عن مسيرته الفنية من( اصبر خليهو) الى مكتب الفوار (وفارقيهو دربي) الى وادي شعير و(عزيز دنياي) ومسيرته العسكرية من( ياخائن) والانقلاب الفاشل على عبود وشكلته مع النميري في واو … سبحان الله وما اعجب هذه الدنيا وياما انت كريم يارب اللهم ارحم ابراهيم وامدد في ايام الطاهر ابراهيم واين انتِ ياصاحبة الصفيحة يامن لا تدرين ماذا فعلت بي؟ وبرضو تقول لي الانسان مخير في الدنيا دي؟ (5)
منظر مهين
أكثر ما أعجبني في الضوابط التي أصدرها الاتحاد العام لكرة القدم في تسجيل اللاعبين الجدد للأندية هو منعه للتجمعات الجماهيرية أمام مكاتب الاتحاد ساعة التسجيل رغم أن هذا يصعب على الاتحاد تطبيقه لأن الاتحاد ليس له علاقة بالشارع العام إلا أن مجرد التنبيه لسوء ظاهرة التجمع امام المكاتب ساعة التسجيل أمر إيجابي فو الله العظيم لم أتألم في يوم من الأيام بقدر ما تألمت في ذلك اليوم ذي النهار القائظ وأنا أمر بشارع البلدية الذي كانت تغلقه الجماهير وعندما اقتربت من مركز التجمهر وجدت هناك لاعبا أجنبيا محمولا على الأعناق علما بأنه لم يبدأ نشاطه مع ناديه الجديد بعد وفيما بعد طلع ذلك اللاعب ماسورة كبيرة بلغة أهل الرياضة وعندما تحريت في الأمر اكتشفت أن كل القضية معركة بين الإداريين في الناديين الكبيرين لا بل أحيانا في النادي الواحد وأن هذا التجهمر في أصله مصنوع ومأجور بمعنى أن هناك تنظيم للشغلانة فجزء من الجمهور مدفوع له من قبل الإداريين او السماسرة ليقوم بعملية الحشد أما اغلبية الحضور فقد جاءوا نتيجة للإثارة الصحفية وهي أيضا مدفوعة القيمة يعني الشغلانة كلها خم في خم ليس هناك تجمع بريء او عفوي ونتائجه عكسية على البلاد وعلى النادي فأحد اللعيبة المحمولين على الأعناق قال بعفوية إن صوره ظهرت في الصحافة السودانية في ثلاثة أيام وقبل أن يظهر في ميدان التنافس أكثر من ظهورها لمدة عشر سنوات ظل يلعبها قبل أن يأتي الى السودان طيب ياجماعة الخير إعلام وحمل على الأعناق ومبالغ خرافية تاني يبذل جهده في الملعب عشان شنو؟ رغم تكاسلهم ولا مبالاتهم هناك إصرار إداري على أن يلعبوا في الماتشات حتى لا يقال صرفت عليهم الملايين وهم قاعدين في الكنبة ويكون ذلك على حساب اللاعب السوداني الذي يصاقر الكنبة وتزيل موهبته ثم يدفع الفريق القومي السوداني الثمن؟ الى متى تستمر هذه المهزلة؟ الى متى يستمر التلاعب بسمعة هذه البلاد ولمصلحة من؟
[/JUSTIFY]
حاطب ليل- السوداني
[email] aalbony@yahoo.com[/email]